الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        الجامع لأحكام الوقف والهبات والوصايا

        خالد المشيقح - أ.د/ خالد بن علي بن محمد المشيقح

        صفحة جزء
        المسألة السابعة: الشرط السابع: أن لا تتضمن الهبة ترك واجب:

        وفيها أمران:

        الأمر الأول: هبة ما يجب من نفقة ونحوها:

        من وهب ما يضر بمن تلزمه نفقته من الزوجات، والأقارب، فإنه يأثم لتقديمه النفل على الواجب.

        قال ابن عابدين: "الصدقة تستحب بفاضل عن كفايته، وكفاية من يمونه، وإن تصدق بما ينقص مؤنة من يمونه أثم"، والهبة من باب أولى.

        ويقول الشيرازي: "لا يجوز أن يتصدق بصدقة التطوع وهو محتاج إلى ما يتصدق به لنفقته، أو نفقة عياله".

        وقال: "ولا يجوز لمن عليه دين وهو محتاج إلى ما يتصدق به لقضاء دينه; لأنه حق واجب، فلم يجز تركه بصدقة التطوع كنفقة عياله".

        وللشافعية وجهان آخران في المسألة غير هذا، ذكرهما النووي: [ ص: 295 ] الأول: أن الصدقة لا تستحب، ولا يقال إنها مكروهة، وحكاه عن الماوردي والغزالي وجماعة من الخراسانيين.

        الثاني: أن الصدقة مكروهة في هذه الحالة.

        وقال ابن قدامة: "فإن تصدق بما ينقص من كفاية من تلزمه مؤنته ولا كسب له أثم".

        وقال الماوردي: "أما صدقة التطوع قبل أداء الواجبات من الزكوات والكفارات، وقبل الإنفاق على من تجب نفقتهم من الأقارب والزوجات، فغير مستحبة ولا مختارة".

        وقال المرداوي: "وإن تصدق بما ينقص مؤنة من تلزمه مؤنته أثم، وكذا لو أضر ذلك بنفسه أو بغريمه أو بكفالته، قاله الأصحاب"، والهبة من باب أولى.

        أما إن كانت الصدقة تنقص من كفاية المتصدق نفسه، ولا صبر له على الضيق، فإنه يكره له الصدقة في هذه الحالة، فإن أضر بنفسه حرم عليه التصدق.

        صرح بهذا فقهاء الحنفية، والشافعية، والحنابلة.

        وقال ابن حزم: "ولا تنفذ هبة ولا صدقة لأحد إلا فيما أبقى له ولعياله غنى، فإن أعطى ما لا يبقى لنفسه وعياله بعده فسخ كله".

        [ ص: 296 ] الدليل:

        1 - قوله تعالى: وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين 2 - قول تعالى: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك .

        (133 ) 3 - ما رواه مسلم من طريق خيثمة، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.... قال: قال رسول الله: "كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوته".

        (134 ) 4 - وما رواه مسلم من طريق أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنهما قال: أعتق رجل من بني عذرة عبدا له عن دبر، فبلغ ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: "ألك مال غيره؟" فقال: لا، فقال: "من يشتريه مني؟" فاشتراه نعيم بن عبد الله بثمانمئة درهم، فجاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفعها إليه، ثم قال: "ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء، فهكذا وهكذا".

        (135 ) 5 - ما رواه البخاري من طريق أبي صالح قال: حدثني أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصدقة ما ترك غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول. تقول المرأة: إما أن تطعمني وإما أن تطلقني، ويقول العبد: أطعمني واستعملني، ويقول الابن: أطعمني، إلى من تدعني، فقالوا: يا أبا هريرة سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لا هذا من كيس أبي هريرة ".

        [ ص: 297 ] (136 ) 6 - ما رواه البخاري من طريق عروة، ومسلم من طريق موسى بن طلحة يحدث أن حكيم بن حزام حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الصدقة، أو خير الصدقة عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول".

        قال الخطابي: "وابدأ بمن تعول" أي: لا تضيع عيالك، وتفضل على غيرك.

        وقال ابن حجر: "وابدأ بمن تعول" أي: بمن يجب عليك نفقته... وهو أمر بتقديم ما يجب على ما لا يجب، وقد بوب البخاري على هذا الحديث وغيره: "باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى، ومن تصدق وهو محتاج أو أهله محتاج أو عليه دين، فالدين أحق أن يقضى من الصدقة والعتق والهبة، وهو رد عليه، ليس له أن يتلف أموال الناس".

        فإذا أمن الإنسان لمن يعوله كفايتهم، أو كان وحده ليس له من يعوله، فهل يشرع له الصدقة بجميع ماله؟.

        اتفق الأئمة الأربعة في الجملة على جواز ذلك، ولكن بشرط أن يعلم من نفسه حسن التوكل واليقين، وأن يكون عنده القناعة والصبر على الفقر وعن المسألة، أو يكون ذا كسب.

        وقال ابن عابدين: "ومن أراد الصدقة بماله كله وهو يعلم من نفسه حسن التوكل، والصبر عن المسألة فله ذلك، وإلا فلا يجوز".

        [ ص: 298 ] وقال ابن عبد البر: "وجائز أن يتصدق الرجل في صحته بماله كله في سبيل البر والخير".

        وقال الماوردي: "إن كان حسن اليقين قنوعا لا يقنطه الفقر، ولا يسأل عند العدم فالأولى أن يتصدق بجميع ماله".

        وقال ابن قدامة: "فإن كان الرجل وحده، أو كان لمن يمون كفايتهم، فأراد الصدقة بجميع ماله، وكان ذا مكسب، أو كان واثقا من نفسه، ويحسن التوكل والصبر على الفقر، والتعفف عن المسألة، فحسن".

        وقال القاضي عياض: "جوز جمهور العلماء وأئمة الأمصار الصدقة بجميع ماله".

        وجزم جمهور الشافعية، وهو الأصح في مذهبهم، وبعض الحنابلة باستحباب ذلك وأفضليته عند تحقق الشرط المذكور.

        وفي وجه عند الشافعية، والحنابلة: بالجواز.

        واستدل الفقهاء - القائلون بالجواز والقائلون بالاستحباب - بما يلي:

        (137 ) 1 - ما رواه أبو داود من طريق الفضل بن دكين، ثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما أن نتصدق، فوافق ذلك ما عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله: "ما أبقيت لأهلك؟" قلت: مثله، قال: وأتى أبو بكر رضي الله عنه بكل ما عنده، فقال له [ ص: 299 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسابقك إلى شيء أبدا".

        [ ص: 300 ] وقال الماوردي - وهو من القائلين بالاستحباب - : "فرسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أقر أبا بكر رضي الله عنه على ذلك واستحسنه; لما علم من قوة إيمانه، وصحة يقينه".

        (138 ) 2 - ما رواه أحمد قال: حدثنا حجين، حدثنا الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن يحيى بن جعدة، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله أي الصدقة أفضل؟ قال: "جهد المقل، وابدأ بمن تعول".

        [ ص: 301 ] فالجهد بالضم: الوسع والطاقة، والمقل: الفقير وقليل المال، والمعنى: أفضل الصدقة قدر الصدقة قدر ما يحتمله حال القليل المال.

        وقليل المال إذا تصدق بما يحتمله وسعه وطاقته، بعد أن يبقي كفاية من يعوله، ويكون متصدقا بجميع ماله.

        قال الفقهاء: فإن لم يتوفر فيمن يريد الصدقة بجميع ماله، الشرط المذكور، كره له ذلك.

        (139 ) 3 - ما رواه أبو داود من طريق محمد بن عجلان، عن عياض ابن عبد الله بن سعد سمع أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: دخل رجل المسجد، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن يطرحوا ثيابا، فطرحوا، فأمر له منها بثوبين، ثم حث على الصدقة، فجاء فطرح أحد الثوبين، فصاح به، وقال: "خذ ثوبك".

        [ ص: 302 ] قال السندي: "عن ظهر غنى: أي: ما بقي خلفها غنى لصاحبه قلبيا، كما كان للصديق، أو قالبيا فيصير الغنى للصدقة كالظهر للإنسان وراء الإنسان، فإضافة الظهر إلى الغنى بيانية; لبيان أن الصدقة إذا كانت بحيث يبقى لصاحبها الغنى بعدها إما لقوة قلبه، أو لوجود شيء بعدها إلى ما أعطى ويضطر إليه، فلا ينبغي لصاحبها التصدق به".

        (140 ) 4 - ما رواه البخاري ومسلم من طريق ابن شهاب قال: أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب أن عبد الله بن كعب، قال: سمعت كعب بن مالك رضي الله عنه يقول: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم قال: "أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك، قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر".

        (141 ) 5 - ما رواه أبو داود من طريق محمد بن عجلان، عن المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة، فقال رجل: يا رسول الله عندي دينار، فقال: "تصدق به على نفسك"، قال: عندي آخر، قال: "تصدق: [ ص: 303 ] به على ولدك" قال: عندي آخر، قال: "تصدق به على زوجتك أو قال زوجك"، قال: عندي آخر، قال: "تصدق به على خادمك"، قال: عندي آخر قال: "أنت أبصر".

        6 - ولأن الإنسان إذا أخرج جميع ماله لا يأمن فتنة الفقر، وشدة نزاع النفس إلى ما خرج منه فيندم، فيذهب ماله ويبطل أجره، ويصير كلا على الناس.

        [ ص: 304 ] فرع: لكن عند توفر شرط الجواز، ما هو الأرجح: القول بالاستحباب أم القول بالجواز؟.

        يقوي القول بالاستحباب:

        قول الله تعالى: ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، لا خلاف في أن المقصود بهذه الآية هم الأنصار، فقد أثنى الله تبارك وتعالى على الأنصار بأنهم ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة أي: يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدؤون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك، قاله ابن كثير.

        ويؤيد القول بالجواز دون الاستحباب:

        قول الله تعالى: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ، فمعنى قوله تعالى: ولا تبسطها كل البسط أي: لا تبسطها بالعطاء كل البسط فتعطي جميع ما عندك، فتقعد محسورا، أي: منقطعا بك لا شيء عندك تنفقه، يقال:... دابة حسيرة إذا كانت كالة.

        ففي الآية نهي عن الإسراف في إنفاق المال في وجوه الخير.

        وقد جاء مثل هذا عن بعض السلف، كعطاء بن أبي رباح، وسعيد بن المسيب، وابن شهاب الزهري أنهم رأوا الاقتصار على الثلث.

        ويبدو أنهم أخذوا ذلك من رواية أبي داود لحديث كعب بن مالك رضي الله عنه.

        [ ص: 305 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية