الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        الجامع لأحكام الوقف والهبات والوصايا

        خالد المشيقح - أ.د/ خالد بن علي بن محمد المشيقح

        صفحة جزء
        المطلب السادس

        استبدال الوقف المنقول

        ومثال ذلك: الدواب إذا كبرت، والثياب إذا خلقت، والحصر إذا بليت، وكتب العلم إذا بليت أيضا، ونحو ذلك، فهل يملك الناظر استبدالها بغيرها، أو لا يملك ذلك؟.

        نقل بعض الفقهاء الإجماع على جواز بيع دواب الحبس إذا لم تعد صالحة لما وقفت له، كالفرس إذا وقف للجهاد في سبيل الله حتى أصبح لا يصلح للجهاد في سبيل الله.

        وممن نقل ذلك ابن قدامة حيث قال: "... وبالقول الأول أقول لإجماعهم على جواز بيع الفرس الحبيس، يعني: الموقوفة على الغزو إذا كبرت فلم تصلح للغزو"، وابن قاضي الجبل حيث قال: "جوز الأئمة الكبار، بل أجمع العلماء على جواز بيع دواب الحبس إذا لم تعد صالحة لما وقفت له".

        وقد اختلف العلماء في حكم إبدال ما عدا الفرس الحبيس من المنقولات على قولين :

        القول الأول : أن الناظر يملك بيع الوقف المنقول، واستبداله إذا ذهبت منفعته . [ ص: 49 ]

        وهو مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية ، والحنابلة .

        جاء في منح الجليل شرح مختصر خليل: "(كما لو كلب) الفرس بفتح الكاف وكسر اللام، أي : أصاب الفرس المحبس لكالغزو الكلب بفتح الكاف واللام; داء يعتري الخيل شبيه بالجنون، فلا ينتفع به في نحو الغزو، وينتفع به في نحو الطحن فيباع ويشترى به سلاح.

        فيها لمالك رضي الله عنه : "ما ضعف من الدواب المحبسة في سبيل الله تعالى، حتى لا يكون فيه قوة على الغزو بيع واشتري بثمنه ما ينتفع به من الخيل ويجعل في السبيل".

        وجاء في حاشية البجيرمي: "وبه فارق ما لو وقف فرسا على الغزو فكبر ولم يصلح حيث جاز بيعه".

        وجاء في مغني المحتاج: "(والأصح جواز بيع حصر المسجد) الموقوفة (إذا بليت وجذوعه إذا انكسرت) أو أشرفت على ذلك كما في الروضة وأصلها، ولو اقتصر عليه المصنف لفهم حكم المنكسر بطريق الأولى (ولم تصلح إلا للإحراق) ; لئلا تضيع ويضيق المكان بها من غير فائدة، فتحصيل [ ص: 50 ] نزر يسير من ثمنها يعود إلى الوقف أولى من ضياعها ولا تدخل بذلك تحت بيع الوقف; لأنها صارت في حكم المعدومة، وهذا ما جرى عليه الشيخان وهو المعتمد، وعلى هذا يصرف ثمنها في مصالح المسجد.

        قال الرافعي: والقياس أن يشترى بثمن الحصير حصير لا غيرها، قال :

        ويشبه أنه مرادهم. وهو ظاهر إن أمكن وإلا فالأول".

        وجاء في شرح الزركشي: "وكذلك الفرس الحبيس إذا لم يصلح للغزو، بيع واشتري بثمنه ما يصلح للجهاد".

        القول الثاني: أن الناظر لا يملك بيع الوقف المنقول، واستبداله وإن ذهبت منفعته .

        وبهذا قال ابن الماجشون من المالكية، وبعض الشافعية فيما لا يحتاج إلى مؤونة.

        الأدلة:

        أدلة القول الأول: (جواز الاستبدال عند ذهاب المنفعة) :

        استدل أصحاب هذا القول بما يلي:

        1- ما تقدم من دليل من قال بجواز استبدال الرباع إذا خربت; لأنه إذا جاز في الرباع فالمنقولات أولى.

        2- ما رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: حملت على فرس في سبيل الله ، فأضاعه الذي عنده ، فأردت أن أشتريه منه، وظننت أنه بائعه برخص، [ ص: 51 ] فسألت عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تشتره وإن أعطاه بدرهم واحد، فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه".

        وجه الاستدلال: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينكر بيع الفرس الحبيس، وإنما نهى عمر رضي الله عنه عن شرائه ; لكونه تصدق به حتى لا يحابى في الثمن.

        3- أن الأوقاف المنقولة إذا لم تعد صالحة لما وقفت له فهو فساد بين لا يرجى صلاحها، ولا يؤمل رجوعها إلى ما كانت عليه ، فيكون بيعها أولى من الرباع.

        أدلة القول الثاني: (عدم جواز الاستبدال) :

        استدل أصحاب هذا القول بما يلي :

        عموم الأدلة على منع بيع الأوقاف مطلقا كحديث ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه : "تصدق بأصله لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث".

        قالوا: وهذا - أي : المنقول - حبس فلم يجز بيعه لعدم الانتفاع به، كما لا يجوز بيع الرباع إذا خربت.

        ونوقش: بأن الأدلة العامة الدالة على منع بيع الأوقاف مطلقا قد سبق مناقشة الاستدلال بها في مثل تلك الأحوال، وأن المراد بها منع بيعها المبطل لأصل الوقف.

        وأما القياس على الرباع الخربة، فغير مسلم فإنه يجوز إبدالها إذا تعطلت منافعها أيضا، كما تقدم في ذلك في استبدال العقار مع بيان الأدلة عليه . [ ص: 52 ]

        الترجيح :

        الذي يظهر رجحانه في هذه المسألة - والله أعلم - هو القول الأول القائل بملكية الناظر لبيع الوقف المنقول واستبداله إذا ذهبت منفعته ; لقوة ما استدلوا به، ولما في ذلك من المصلحة الظاهرة للواقف والموقوف عليه، ولأنه إذا جاز ذلك في العقار، فالمنقول من باب أولى.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية