الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        الجامع لأحكام الوقف والهبات والوصايا

        خالد المشيقح - أ.د/ خالد بن علي بن محمد المشيقح

        صفحة جزء
        قوله: « فأضاعه » يقتضي أن الذي كان عنده قصر في حقه حتى ضعف فبيع، لضياعه وضعفه ، ولم ينكر الرسول -صلى الله عليه وسلم- ذلك، وإنما نهى عمر -رضي الله عنه- عن شرائه، لكونه تصدق به.

        فجاز الإبدال في أصل الصدقة، فكذا في الوصية.

        (251 ) 5 - ما أورده شيخ الإسلام نقلا عن الشافي: حدثنا الخلال ، حدثنا صالح بن أحمد، حدثنا أبي، حدثنا يزيد بن هارون، ثنا المسعودي عن القاسم قال: « لما قدم عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- على بيت المال كان سعد بن مالك قد بنى القصر، واتخذ مسجدا عند أصحاب التمر، قال: فنقب [ ص: 448 ] بيت المال فأخذ الرجل الذي نقبه ، فكتب إلى عمر بن الخطاب، فكتب عمر أن لا تقطع الرجل وأن انقل المسجد الذي بالتمارين، واجعل بيت المال في قبلة المسجد، فإنه لن يزال في المسجد مصل » ، وكان هذا بمشهد من الصحابة ، ولم يظهر خلافه، فكان كالإجماع.

        قال شيخ الإسلام ابن تيمية: « إذا كان يجوز في المسجد الموقوف الذي يوقف للانتفاع بعينه، وعينه محترمة شرعا أن يبدل به غيره للمصلحة، فلأن يجوز الإبدال بالأصلح والأنفع فيما يوقف للاستغلال أولى وأحرى » .

        قال ابن قاضي الجبل: « هذا الأثر كما أنه يدل على مساغ بيع الوقف عند تعطل نفعه، فهو دليل أيضا على جواز الاستبدال عند رجحان المبادلة ; لأن هذا المسجد لم يكن نفعه متعطلا، وإنما ظهرت المصلحة في نقله لحراسة بيت المال الذي جعل في قبلة المسجد الثاني » .

        وإذا جاز في أصل الوقف، ففي الوصية أولى.

        5 - أن الصحابة -رضي الله عنهم- غيروا كثيرا من بناء مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- بأمكن منه للمصلحة الراجحة في ذلك ، فقد ثبت أن عمر وعثمان غيرا بناءه، أما عمر فبناه بنظير بنائه الأول باللبن والجذوع، وأما عثمان فبناه بمادة أعلى من تلك [ ص: 449 ] كالساج، وبكل حال فاللبن والجذوع التي كانت وقفا أبدلها الخلفاء الراشدون بغيرها، وهذا من أعظم ما يشتهر من القضايا ولم ينكره منكر، ولا فرق بين إبدال البناء ببناء، وإبدال العرصة بعرصة إذا اقتضت المصلحة ذلك.

        وإذا جاز في أصل الوقف ففي الوصية أولى.

        7 - أن بعض الصحابة -رضي الله عنهم- سوغ نقل الملك في أعيان موقوفة تارة بالتصدق بها ، وتارة ببيعها عند المصلحة وإبدالها بجنسها.

        (252 ) فقد ورد عن عمر -رضي الله عنه- « أنه كان ينزع كسوة البيت كل سنة فيقسمها على الحاج » .

        (253 ) ما رواه البيهقي: أخبرنا أبو الحسن محمد بن أبي المعروف الفقيه، أنبأ بشر بن أحمد الإسفراييني، أنبأ أبو جعفر أحمد بن الحسين بن نصر الحذاء، ثنا علي بن عبد الله المديني، حدثني أبي، أخبرني علقمة بن أبي علقمة، عن أمه قالت: دخل شيبة بن عثمان الحجبي على عائشة -رضي الله عنها- فقال: يا أم المؤمنين إن ثياب الكعبة تجتمع علينا فتكثر، فنعمد إلى آبار فنحتفرها فنعمقها، ثم ندفن ثياب الكعبة فيها كيلا يلبسها الجنب والحائض، فقالت له عائشة -رضي الله عنها-: ما أحسنت، ولبئس ما صنعت إن ثياب الكعبة إذا نزعت منها لم يضرها أن يلبسها الجنب والحائض، ولكن بعها واجعل ثمنها في المساكين وفي سبيل الله، قالت: فكان شيبة بعد ذلك يرسل بها إلى اليمن فتباع هناك، ثم يجعل ثمنها في المساكين، وفي سبيل الله ، وابن السبيل .

        [ ص: 450 ] قال ابن قاضي الجبل: وهذا ظاهر في مطلق نقل الملك عند رجحان المصلحة، وكذا الوصية.

        وحجة من قال بعدم الجواز: 1 - ما تقدم من الأدلة الدالة على وجوب العمل بشرط الموصي.

        (254 ) 2 - ما رواه الإمام أحمد من طريق الجهم، عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه -رضي الله عنهما- قال: أهدى عمر بن الخطاب نجيبا، فأعطي بها ثلاثمئة دينار، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله إني أهديت نجيبا، فأعطيت بها ثلاثمئة دينار، أفأبيعها وأشتري بثمنها بدنا ؟ قال: « لا، انحرها إياها .

        [ ص: 451 ] وجه الدلالة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- منع عمر بن الخطاب من تغيير الهدي ، فيقاس عليه تغيير الوصية.

        ونوقش هذا الاستدلال من وجوه: الوجه الأول: أن هذا الحديث ضعيف لا يحتج به لأمرين: أحدهما: أن فيه الجهم بن الجارود، قال الذهبي: فيه جهالة.

        الثاني: أن الحديث فيه انقطاع، فقد ذكر البخاري في تاريخه: أنه لا يعرف لجهم سماع من سالم.

        الوجه الثاني: لو فرض صحة الحديث، فإنه يقال: إن فرض المسألة كون العين التي وقع الاستبدال بها أرجح من الوقف وأولى، والعين التي أراد عمر الاستبدال بها ليست أرجح من النجيبة بالنسبة على القرب إلى الله تعالى، بل النجيبة كانت راجحة على ثمنها، وعلى البدن المشتراة به; وذلك لأن خير الرقاب أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها، والمطلوب أعلى ما يؤخذ فيما يتقرب به إلى الله تعالى، وتجنب الدون.

        الوجه الثالث: لو فرض صحة الحديث، ولو سلمنا كون الاستبدال [ ص: 452 ] بالهدي والأضحية ممنوعا منه لم يلتزم عدم جواز الاستبدال في الوصايا عند رجحان المصالح; وذلك أن الوقف مراد لاستمرار ريعه، ودوام غلته; بخلاف الهدي والأضحية.

        3 - أن للواقف غرضا وقصدا في تعيين الجهة التي تصرف إليها الوصية.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن مخالفة شرط الموصي إلى أعلى فيه تحقيق لغرض الموصي وزيادة.

        4 - أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فيمنع من تغيير شرط الموصي منعا لئلا يتلاعب بالوصية.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأنه مسلم حال التلاعب، وتبقى المشروعية حال السلامة.

        الترجيح:

        من خلال هذا العرض تظهر قوة أدلة القول الأول القائل بجواز تغيير الوصية إذا لم تكن لمعين عند رجحان المصلحة; لقوة دليله، لكن سدا لذريعة التلاعب بالوصايا، وخشية مخالفة غرض الموصي وقصده يقيد بما يلي:

        1 - أن يكون التغيير بإذن القاضي، أو فتاوى العلماء.

        2 - ظهور المصلحة التي يراد تغيير الشرط إليها.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية