الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        الجامع لأحكام الوقف والهبات والوصايا

        خالد المشيقح - أ.د/ خالد بن علي بن محمد المشيقح

        صفحة جزء
        [ ص: 396 ] المطلب الثامن

        شهادة النساء بالوصية

        اتفق الفقهاء على رد شهادة المرأة الواحدة بالوصية ; لقوله تعالى: فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان .

        فاعتبر التعدد في قبول شهادة النساء مع الرجل في الأموال، فيدل ذلك على اشتراطه في شهادتين وحدهن من باب أولى وأحرى، والوصية مال من الأموال، فلا تقبل فيها شهادة المرأة الواحدة.

        واختلف في شهادة المرأتين فأكثر على قولين:

        القول الأول: قبول شهادة المرأتين فأكثر في الوصية.

        وهو المشهور من مذهب المالكية ، وبه قال ابن حزم.

        واختاره شيخ الإسلام، وابن القيم، ونص المالكية : أنه يحلف معهما المشهود له، ويستحق.

        وأدلتهم:

        1 - قوله تعالى: فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان .

        [ ص: 397 ] وجه الدلالة: أن الله تعالى جعل شهادة المرأتين بدل شهادة رجل وجب أن يكون حكمهما حكمه، فكما أن للمدعي أن يحلف مع الشاهد، فله أن يحلف مع شهادة المرأتين.

        2 - حديث أبي سعيد رضي الله عنه، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟، قلنا: بلى، فقال: ذلك من نقصان عقلها .

        فالرسول -صلى الله عليه وسلم- نص على أن شهادة المرأة نصف شهادة الرجل من غير تفريق بين موضع وآخر، وبمفهومه أن شهادتها مع مثله كشهادة الرجل.

        3 - قال ابن حزم: « وبضرورة العقل يدري كل أحد أنه لا فرق بين امرأة ورجل، وبين رجلين وبين امرأتين، وبين أربعة رجال وأربع نسوة في جواز تعمد الكذب والغفلة، والنفس تطيب بشهادة ثماني نساء أكثر من شهادة أربعة رجال » .

        4 - القياس على شهادة العدل الواحد، فإن الله -عز وجل- جعل شهادة المرأتين بمنزلة شهادة الرجل الواحد في ثبوت الحق بها في الأموال مع اليمين، والمرأتان مثله ; لتساويهما في العدالة، وقبول الشهادة عند اجتماعهما مع الرجل، فيقبل عند انفرادهما، كما تقبل شهادة الرجل عند انفراده عنهما.

        قال ابن القيم في الطرق الحكمية: « فإن قيل: البينة على المال إذا خلت من رجل لم تقبل، كما لو شهد أربع نسوة، وما ذكرتموه ينتقض بهذه [ ص: 398 ] الصورة، فإن المرأتين لو أقيمتا مقام رجل من كل وجه لكفى أربع نسوة مقام رجلين، وتقبل في غير الأموال شهادة رجل وامرأتين.

        وأيضا: فشهادة المرأتين ضعيفة، فقويت بالرجل، واليمين ضعيفة فينضم ضعيف إلى ضعيف، فلا يقبل.

        وأيضا: فإن الله سبحانه قال: واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ، فلو حكم بامرأتين ويمين لكان هذا قسما ثالثا.

        والجواب: أما قولكم: إن البينة إذا خلت عن الرجل لم تقبل، فهذا هو المدعي وهو محل النزاع، فكيف يحتج به، وقولكم كما لو شهد أربع نسوة، فهذا فيه نزاع، وإن ظنه طائفة إجماعا كالقاضي وغيره.

        قال الإمام أحمد: في الرجل يوصي ولا يحضره إلا النساء قال: أجيز شهادة النساء.

        فظاهر هذا أنه أثبت الوصية بشهادة النساء على الانفراد إذا لم يحضره الرجال.

        وذكر الخلال عن أحمد أنه سئل عن الرجل يوصي بأشياء لأقاربه ويعتق ولا يحضره إلا النساء هل تجوز شهادتهن ؟ قال: نعم تجوز شهادتهن في الحقوق.

        وقد تقدم ذكر المواضع التي قبلت فيها البينات من النساء، وأن البينة اسم لما يبين الحق، وهو أعلم من أن يكون برجال أو نساء أو نكول أو يمين أو أمارات ظاهرة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد قبل شهادة المرأة في الرضاع، وقبلها الصحابة في مواضع ذكرناها، وقبلها التابعون.

        وقولكم: ويقبل في غير الأموال شهادة رجل وامرأتين:

        قلنا: نعم، وذلك موجود في عدة مواضع كالنكاح والرجعة والطلاق والنسب والولاء والإيصاء والوكالة في النكاح وغيره على إحدى الروايتين.

        [ ص: 399 ] وقولكم: شهادة المرأتين ضعيفة فقويت بالرجل، واليمين ضعيفة، فيضم ضعيف إلى ضعيف، فلا يقبل.

        جوابه: أنا لا نسلم ضعف شهادة المرأتين إذا اجتمعتا، ولهذا يحكم بشهادتهما إذا اجتمعتا مع الرجل، وإن أمكن أن يؤتى برجلين، فالرجل والمرأتان أصل لا بدل، والمرأة العدل كالرجل في الصدق والأمانة والديانة، إلا أنها لما خيف عليها السهو والنسيان قويت بمثلها، وذلك قد يجعلها أقوى من الرجل الواحد أو مثله، ولا ريب أن الظن المستفاد من شهادة مثل أم الدرداء وأم عطية أقوى من الظن المستفاد من رجل واحد دونهما ودون أمثالهما.

        وأما قوله تعالى: واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ، ولم يذكر المرأتين والرجل.

        فيقال: ولم يذكر الشاهد واليمين، ولا النكول، ولا الرد، ولا شهادة المرأة الواحدة، ولا المرأتين، ولا الأربع نسوة، وهو سبحانه لم يذكر ما يحكم به الحاكم، وإنما أرشدنا إلى ما يحفظ به الحق، وطرق الحكم أوسع من الطرق التي تحفظ بها الحقوق » .

        القول الثاني: أنها مردودة لا يثبت بها وصية.

        وهو مذهب الشافعية ، والحنابلة .

        وحجته: 1 - قوله تعالى: فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان .

        [ ص: 400 ] فاشترط شهادة الرجل مع النساء، وهو يدل بمفهومه على عدم قبول شهادتهن وحدهن في الأموال، والوصية مال، فلا تقبل فيها شهادتهن.

        ونوقش: بأنه استدلال بالمفهوم، ويعارضه منطوق الآية من اعتبار شهادة النساء مع العدد مقابل شهادة الرجل.

        2 - أن شهادة المرأتين ضعيفة تقوت بشهادة الرجل، واليمين ضعيفة فلا يضم ضعيف إلى ضعيف.

        ونوقش: بما تقدم من كلام ابن القيم -رحمه الله-.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم - قول المالكية ; لقوة دليله، ولما في ذلك من حفظ أموال الناس.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية