مسألة : ولم يجد دليلا من موضع آخر وتحير . إذا تعارض دليلان عند المجتهد وعجز عن الترجيح
فالذين ذهبوا إلى أن المصيب واحد يقولون : هذا بعجز المجتهد وإلا فليس في أدلة الشرع تعارض من غير ترجيح فيلزم التوقف أو الأخذ بالاحتياط أو تقليد مجتهد آخر عثر على الترجيح . وأما المصوبة فاختلفوا فمنهم من قال : يتوقف لأنه متعبد باتباع غالب الظن ولم يغلب عليه ظن شيء وهذا هو الأسلم الأسهل ، وقال : يتخير ; لأنه تعارض عنده دليلان ، وليس أحدهما أولى من الآخر فيعمل بأيهما شاء وهذا ربما يستنكر ويستبعد ، ويقال : كيف يتخير في حال واحدة بين الشيء وضده ؟ وليس هذا محالا ; لأن التخيير بين حكمين مما ورد الشرع به كالتخيير بين خصال الكفارة القاضي
ولو صرح الشرع بالتخيير كان له ذلك فقد اضطررنا إلى التخيير ; لأن الحكم تارة يؤخذ من النص وتارة من المصلحة وتارة من الشبه وتارة من الاستصحاب . فإن نظرنا إلى النص فيجوز أن يتعارض في حقنا نصان ، ولا يتبين تاريخ أو يتعارض عمومان ولا يتبين ترجيح أو يتعارض استصحابان كما في مسائل تقابل الأصلين أو يتعارض شبهان بأن تدور المسألة بين أصلين ويكون شبهه هذا كشبهه ذاك أو يتعارض مصلحتان بحيث لا ترجيح .
فلو قلنا : يتوقف ، فإلى متى يتوقف ؟ وربما لا يقبل الحكم التأخير ولا نجد مأخذا آخر للحكم ولا نجد مفتيا آخر يترجح عنده أو وجد من ترجح عنده بخيال هو فاسد عنده يعلم أنه لا يصلح للترجيح ، فكيف يرجح بما يعتقد أنه لا يصلح للترجيح ؟ بل لا سبيل إلا التخير ، كما لو اجتمع على العامي مفتيان استوى حالهما عنده في العلم والورع ، ولم يجد ثالثا فلا طريق إلا التخيير .
وللفقهاء في تعارض البينتين مذاهب ، فمنهم من قال : نقسم المال بينهما ومعناه تصديق البينتين وتقدير أنه قام لكل واحد سبب كمال الملك ، لكن ضاق المحل عن الوفاء بهما ولا ترجيح ، فصار كما لو استحقاه بالشفعة إذ لكل واحد من الشفيعين سبب كامل في استحقاق جميع الشقص المبيع لكن ضاق المحل [ ص: 365 ] فيوزع عليهما .
وعلى الجملة الاحتمالات أربعة : إما العمل بالدليلين جميعا أو إسقاطهما جميعا ، أو تعيين أحدهما بالتحكم أو التخيير ولا سبيل إلى الجمع عملا وإسقاطا ; لأنه متناقض ، ولا سبيل إلى التوقف إلى غير نهاية فإن فيه تعطيلا ، ولا سبيل إلى التحكم بتعيين أحدهما ; فلا يبقى إلا الرابع وهو التخيير كما في اجتماع المفتيين على العامي ، فإن قيل : كما استحالت الأقسام الثلاثة فالتخيير أيضا جمع بين النقيضين فهو محال .
قلنا : المحال ما لو صرح الشرع به لم يعقل ، ولو قال الشارع : من دخل الكعبة فله أن يستقبل أي جدار أراد فيتخير بين أن يستقبل جدارا أو يستدبره ، كان معقولا لأنه كيفما فعل فهو مستقبل شيئا من الكعبة ، وكيفما تقلب فإليها ينقلب . وكذلك إذا قال : تعبدتكم باتباع الاستصحاب ، ثم تعارض استصحابان فكيفما تقلب فهو مستصحب ، كما إذا أعتق عن كفارته عبدا غائبا انقطع خبره فالأصل بقاء الحياة والأصل بقاء اشتغال الذمة فقد تعارضا .
وكذلك إذا علم المجتهد أن في التسوية في العطاء مصلحة وهي الاحتراز عن وحشة الصدور بمقدار التفاوت الذي لا يتقدر إلا بنوع من الاجتهاد وفي التفاوت مصلحة تحريك رغبات الفضائل وهما مصلحتان ربما تساوتا عند الله تعالى أيضا ، فكيفما فعل فقد مال إلى مصلحة .
وكذلك قد تشبه المسألة أصلين شبها متساويا وقد أمرنا باتباع الشبه فكيفما فعل فهو ممتثل ، ومثاله قوله عليه السلام في زكاة الإبل : { } فمن له من الإبل مائتان فإن أخرج الحقاق فقد عمل بقوله عليه السلام : { في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة } وإن أخرج بنات لبون فقد عمل بقوله : { في كل خمسين حقة } وليس أحد اللفظين بأولى من الآخر فيتخير ، فكذلك عند تعارض الاستصحاب والمصلحة والشبه . في كل أربعين بنت لبون
فإن قيل : التخيير بين التحريم ونقيضه يرفع التحريم والتخيير بين الواجب وتركه يرفع الوجوب والجمع بين أختين مملوكتين إما أن يحرم أو لا يحرم ، فإن قلنا بهما جميعا فهو متناقض .
قلنا : يحتمل أن يرجع عند تعارض الدليل الموجب والمسقط إلى الوجه الآخر وهو القول بالتساقط ويطلب الدليل من موضع آخر ويخص وجه التخيير بما لو ورد الشرع فيه بالتخيير لم يتناقض مما يضاهي مسألة بنات اللبون والحقاق وكالاختلاف في المحرم إذا جمع بين التحليلين الواجب عليه بدنة أو شاة إذ التخيير بينهما معقول فيحصل في تعارض الدليلين ثلاثة أوجه وجه في التساقط ، ووجه في التخيير ، ووجه في التفصيل ; وفصل بين ما يمكن التخيير فيه من الواجبات إذ يمكن التخيير فيها وبين ما يتعارض فيه الموجب والمبيح أو المحرم والمبيح فلا يمكن التخيير فيه فيرجع إلى التساقط .
وإن أردنا الإصرار على وجوب التخيير مطلقا فله وجه أيضا ، وهو أنا نقول : إنما يناقض الوجوب جواز الترك مطلقا أما جوازه بشرط فلا بدليل أن الحج واجب على التراخي وإذا أخر ثم مات قبل الأداء لم يلق الله عاصيا عندنا إذا أخر مع العزم على الامتثال ، فجواز تركه بشرط العزم لا ينافي في الوجوب بل المسافر مخير بين أن يصلي أربعا فرضا وبين أن يترك ركعتين ، فالركعتان واجبتان ويجوز أن يتركهما ولكن جاز تركهما بشرط أن يقصد الترخص ويقبل صدقة قد تصدق الله بها على عباده ، فهو كمن يستحق أربعة دراهم على غيره فقال له : تصدقت عليك بدرهمين إن قبلت وإن لم تقبل وأتيت بالأربعة قبلت [ ص: 366 ] الأربعة عن الدين الواجب
فإن شاء قبل الصدقة وأتى بدرهمين وإن شاء أتى بالأربعة عن الواجب ولا يتناقض ، فكذلك في مسألتنا إذا اقتضى استصحاب شغل الذمة إيجاب عتق آخر بعد أن أعتق عبدا غائبا فلا يجوز له تركه إلا بشرط أن يقصد استصحاب الحياة ويعمل بموجبه ، فمن لم يخطر له الدليل المعارض أو خطر له ولم يقصد العمل وترك الواجب لم يجز وكذلك إذا سمع قوله تعالى { وأن تجمعوا بين الأختين } حرم عليه الجمع بين المملوكتين ، وإنما يجوز له إذا قصد العمل بموجب الدليل الثاني وهو قوله تعالى : { أو ما ملكت أيمانكم } كما قال : أحلتهما آية وحرمتهما آية . وسئل عثمان عمن نذر صوم يوم من كل أسبوع فوافق يوم العيد فقال : أمر الله بوفاء النذر ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم العيد ولم يزد على هذا " معناه أنه إذا لم يظهر ترجيح فيحرم صوم العيد بالنهي . ابن عمر
ويجوز أن يصوم بشرط أن يقصد العمل بموجب الدليل الثاني وهو الأمر بالوفاء وكان ذلك جوازا بشرط فلا يتناقض الواجب ، وأما إذا تعارض الموجب والمحرم فيتولد منه التخيير المطلق كالولي إذا لم يجد من اللبن إلا ما يسد رمق أحد رضيعيه ولو قسم عليهما أو منعهما لماتا ولو أطعم أحدهما مات الآخر فإذا أشرنا إلى رضيع معين كان إطعامه واجبا ; لأن فيه إحياءه وحراما ; لأن فيه هلاك غيره ، فنقول هو مخير بين أن يطعم هذا فيهلك ذاك أو ذاك فيهلك هذا ، فلا سبيل إلا التخيير ، فإذا مهما تعارض دليلان في واجبين كالشاة والبدنة في الجمع بين التحليلين تخير بينهما
وإن تعارض دليل الوجوب ودليل الإباحة تخير بشرط قصد العمل بموجب الدليل المبيح كما يتخير بين ترك الركعتين قصدا وبين إتمامهما لكن بشرط قصد الترخص ، وإن تعارض الموجب والمحرم حصل التخيير المطلق أيضا . هذا طريق نصرة اختيار في التخيير . فإن قيل : تعارض دليلين من غير ترجيح محال ، وإنما يخفى الترجيح على المجتهد . قلنا : وبم عرفتم استحالة ذلك ؟ فكما تعارض موجب بنات اللبون والحقاق فلم يستحل أن يتعارض استصحابان وشبهان ومصلحتان وينتفي الترجيح في علم الله تعالى . القاضي
فإن قيل : فما معنى قول المسألة على قولين ؟ قلنا : هو التخيير في بعض المواضع والتردد في بعض المواضع ، كتردده في أن البسملة هل هي آية في أول كل سورة ; فإن ذلك لا يحتمل التخيير ; لأنه في نفسه أمر حقيقي ليس بإضافي فيكون الحق فيه واحدا . الشافعي
فإن قيل : فمذهب التخيير يفضي إلى محال ، وهو أن يخير الحاكم المتخاصمين في شفعة الجوار أو استغراق الجد للميراث أو المقاسمة ; لأن حكم الله الخيرة ، وكذلك يخير المفتي العامي ، وكذلك يحكم لزيد بشفعة الجوار ولعمرو بنقيضه ويوم السبت باستغراق الجد للميراث ويوم الأحد بالمقاسمة بل تثبت الشفعة يوم الأحد وتسترد يوم الاثنين بالرأي الآخر .
قلنا : لا تخيير للمتخاصمين بين النقيضين ; لأن الحاكم منصوب لفصل الخصومة عند التنازع فيلزمه أن يفصل الخصومة بأي رأي أراد ، كما لو تنازع الساعي والمالك في بنات اللبون والحقاق وفي الشاة والدراهم في الجبران فالحاكم يحكم بما أراد أما الرجوع فغير جائز لمصلحة الحكم أيضا فإنه لو تغير اجتهاده عندكم تغير فتواه ولا ينقض الحكم السابق للمصلحة ، أما قضاؤه يوم الأحد بخلاف قضائه يوم السبت [ ص: 367 ] وفي حق زيد بخلاف ما في حق عمرو فما قولكم فيه لو تغير اجتهاده ؟ أليس ذلك جائزا ؟
فكذلك إذا اجتمع دليلان عليه عندنا كما في الحقاق وبنات اللبون يجوز أن يشير بإشارات مختلفة فيأمر زيدا ببنات اللبون وعمرا بالحقاق وعلى الجملة يجوز أن يغاير أمر الحكم أمر الفتوى لمصلحة الحكم كما لو تغير الاجتهاد فإنه لا ينقض الحكم الماضي ويحكم في المستقبل بالاجتهاد الثاني ، وكذلك المجتهد في القبلة إذا تعارض عنده دليلان في جهتين والصلاة لا تقبل التأخير ولا مجتهد يقلد فهل له سبيل إلا أن يتخير إحدى الجهتين فيصلي إلى أي الجهتين شاء ، ولا يجوز أن يعدل إلى الجهتين الباقيتين اللتين دل اجتهاده على أن القبلة ليست فيهما ، فهذه أمور لو وقع التصريح بها من الشارع كان مقبولا ومعقولا وإليه الإشارة بقول علي رضي الله عنهما في الجمع بين المملوكتين : " أحلتهما آية وحرمتهما آية " وعثمان