النظر الثاني في أحكام الاجتهاد والنظر في حق المجتهد في تأثيمه وتخطئته وإصابته وتحريم التقليد عليه وتحريم نقض حكمه الصادر عن الاجتهاد ، فهذه أحكام النظر .
الأول : في والإثم ينتفي عن كل من جمع صفات المجتهدين إذا تمم الاجتهاد في محله فكل اجتهاد تام إذا صدر من أهله وصادف محله فثمرته حق وصواب ، والإثم عن المجتهد منفي . والذي نختاره أن الإثم والخطأ متلازمان ، فكل مخطئ آثم وكل [ ص: 348 ] آثم مخطئ ، ومن انتفى عنه الإثم انتفى عنه الخطأ . تأثيم المخطئ في الاجتهاد
فلنقدم حكم الإثم أولا فنقول : النظريات تنقسم إلى ظنية وقطعية ، فلا إثم في الظنيات إذ لا خطأ فيها ، والمخطئ في القطعيات آثم . والقطعيات ثلاثة أقسام : كلامية ، وأصولية ، وفقهية . أما الكلامية فنعني بها العقليات المحضة ، والحق فيها واحد ، ومن أخطأ الحق فيها فهو آثم ، ويدخل فيه حدوث العالم وإثبات المحدث وصفاته الواجبة والجائزة والمستحيلة وبعثة الرسل وتصديقهم بالمعجزات وجواز الرؤية وخلق الأعمال وإرادة الكائنات وجميع ما الكلام فيه مع المعتزلة والخوارج والروافض والمبتدعة .
وحد المسائل الكلامية المحضة ما يصح للناظر درك حقيقته بنظر العقل قبل ورود الشرع ، فهذه المسائل الحق فيها واحد ومن أخطأه فهو آثم ، فإن أخطأ فيما يرجع إلى الإيمان بالله ورسوله فهو كافر ، وإن أخطأ فيما لا يمنعه من معرفة الله عز وجل ومعرفة رسوله كما في مسألة الرؤية وخلق الأعمال وإرادة الكائنات وأمثالها فهو آثم من حيث عدل عن الحق وضل ، ومخطئ من حيث أخطأ المتيقن ومبتدع من حيث قال قولا مخالفا للمشهور بين السلف ولا يلزم الكفر .
وأما الأصولية فنعني بها كون الإجماع حجة وكون القياس حجة وكون خبر الواحد حجة ، ومن جملته خلاف من جوز خلاف الإجماع المنبرم قبل انقضاء العصر وخلاف الإجماع الحاصل عن اجتهاد ومنع المصير إلى أحد قولي الصحابة والتابعين عند اتفاق الأمة بعدهم على القول الآخر ، ومن جملته اعتقاد كون المصيب واحدا في الظنيات ، فإن هذه مسائل أدلتها قطعية والمخالف فيها آثم مخطئ . وقد نبهنا على القطعيات والظنيات في أدراج الكلام في جملة الأصول .
وأما الفقهية فالقطعية منها وجوب الصلوات الخمس والزكاة والحج والصوم وتحريم الزنا والقتل والسرقة والشرب ، وكل ما علم قطعا من دين الله فالحق فيها واحد وهو المعلوم والمخالف فيها آثم .
ثم ينظر فإن أنكر ما علم ضرورة من مقصود الشارع كإنكار تحريم الخمر والسرقة ووجوب الصلاة والصوم فهو كافر ; لأن هذا الإنكار لا يصدر إلا عن مكذب بالشرع ، إن علم قطعا بطريق النظر لا بالضرورة ككون الإجماع حجة وكون القياس وخبر الواحد حجة وكذلك الفقهيات المعلومة بالإجماع فهي قطعية فمنكرها ليس بكافر لكنه آثم مخطئ . فإن قيل : كيف حكمتم بأن وجوب الصلاة والصوم ضروري ولا يعرف ذلك إلا بصدق الرسول ، وصدق الرسول نظري ؟ قلنا : نعني به أن إيجاب الشارع له معلوم تواترا أو ضرورة ، أما أن ما أوجبه فهو واجب فذلك نظري يعرف بالنظر في المعجزة المصدقة ومن ثبت عنده صدقه فلا بد أن يعترف به ، فإن أنكره فذلك لتكذيبه الشارع ، ومكذبه كافر فلذلك كفرناه به .
أما ما عداه من الفقهيات الظنية التي ليس عليها دليل قاطع فهو في محل الاجتهاد ، فليس فيها عندنا حق معين ، ولا إثم على المجتهد إذا تمم اجتهاده وكان من أهله . فخرج من هذا أن النظريات قسمان : قطعية وظنية ، فالمخطئ في القطعيات آثم ولا إثم في الظنيات أصلا لا عند من قال : المصيب فيها واحد . ولا عند من قال : كل مجتهد مصيب ، هذا هو مذهب الجماهير .
وقد ذهب إلى إلحاق الفروع بالأصول وقال فيها حق واحد متعين والمخطئ آثم ، وقد ذهب بشر المريسي الجاحظ والعنبري إلى إلحاق الأصول بالفروع ، وقال العنبري : كل مجتهد في [ ص: 349 ] الأصول أيضا مصيب وليس فيها حق متعين . وقال فيها : حق واحد متعين لكن المخطئ فيها معذور غير آثم كما في الفروع . فلنرسم في الرد على هؤلاء الثلاثة ثلاث مسائل : الجاحظ