الأول : الاتصال ، فمن قال : اضرب المشركين ، ثم قال بعد ساعة إلا زيدا ، لم يعد هذا كلاما بخلاف ما لو قال : أردت بالمشركين قوما دون قوم ، ونقل عن أنه جوز تأخير الاستثناء ، ولعله لا يصح عنه النقل إذ لا يليق ذلك بمنصبه ، وإن صح فلعله أراد به إذا نوى الاستثناء أولا ثم أظهر نيته بعده فيدين بينه ، وبين الله فيما نواه ، ومذهبه أن ما يدين فيه العبد فيقبل ظاهرا أيضا فهذا له وجه . أما تجويز التأخير لو أجيز عليه دون هذا التأويل ، فيرد عليه اتفاق أهل اللغة على خلافه ; لأنه جزء من الكلام يحصل به الإتمام ، فإذا انفصل لم يكن إتماما كالشرط ، وخبر المبتدإ ، فإنه لو قال : اضرب زيدا إذا قام فهذا شرط ، فلو أخر ثم قال : بعد شهر : إذا قام ، لم يفهم هذا الكلام فضلا عن أن يصير شرطا ، وكذلك قوله : إلا زيدا بعد شهر لا يفهم ، وكذلك لو قال : زيد ثم قال : بعد شهر : قام لم يعد هذا خبرا أصلا . ابن عباس
ومن ههنا قال قوم : يجوز التأخير لكن بشرط أن يذكر عند قوله : " إلا زيدا " أني أريد الاستثناء ، حتى يفهم ، وهذا أيضا لا يغني فإن هذا لا يسمى استثناء . احتجوا بجواز تأخير النسخ ، وأدلة التخصيص ، وتأخير البيان .
فنقول : إن جاز القياس في اللغة ، فينبغي أن يقاس عليه الشرط ، والخبر ، ولا ذاهب إليه ; لأنه لا قياس في اللغات ، وكيف يشبه بأدلة التخصيص ، وقوله إلا زيدا يخرج عن كونه مفهوما فضلا عن أن يكون إتماما للكلام الأول
والشرط الثاني : أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه ، كقوله : رأيت الناس إلا زيدا ، ولا تقول : رأيت الناس إلا حمارا . أو تستثني جزءا مما دخل تحت اللفظ كقوله : رأيت الدار إلا بابها ، ورأيت زيدا إلا وجهه ، وهذا استثناء من غير الجنس ; لأن اسم الدار لا ينطلق على الباب ، ولا اسم زيد على وجهه بخلاف قوله : مائة ثوب إلا ثوبا ، وعن هذا قال قوم : ليس من أن يكون من الجنس قال شرط الاستثناء : لو قال : علي مائة درهم إلا ثوبا صح ، ويكون معناه إلا قيمة ثوب ، ولكن إذا رد إلى القيمة فكأنه تكلف رده إلى الجنس . الشافعي
وقد ورد الاستثناء من غير الجنس كقوله تعالى : { فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس } ، ولم يكن من الملائكة فإنه قال : { إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه } ، وقال تعالى { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ } استثنى الخطأ من العمد ، وقال تعالى : { فإنهم عدو لي إلا رب العالمين } ، وقال : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة } ، وقال تعالى { وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى } ، وهذا الاستثناء ليس فيه معنى التخصيص ، والإخراج إذ المستثنى ما كان ليدخل تحت اللفظ أصلا ، ومن معتاد كلام العرب : ما في الدار رجل إلا امرأة ، وما له ابن إلا ابنة ، وما رأيت أحدا إلا ثورا ، وقال شاعرهم :
وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس
، وقال آخر :ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
، والأولى التجويز في الأقارير ; لأنه إذا صار معتادا في كلام العرب وجب قبوله لانتظامه ، نعم اسم الاستثناء عليه مجاز أو حقيقة ؟ وهذا فيه نظر ، واختار رحمه الله أنه حقيقة . ، والأظهر القاضي عندي أنه مجاز ; ; لأن الاستثناء من الثني تقول : ثنيت زيدا عن رأيه ، وثنيت العنان ، فيشعر الاستثناء بصرف الكلام عن صوبه الذي كان يقتضيه سياقه ، فإذا ذكر ما لا دخول له في الكلام الأول لولا الاستثناء أيضا فما صرف الكلام ، ولا ثناه عن وجه استرساله ، فتسميته استثناء تجوز باللفظ عن موضعه فتكون " إلا " في هذا الموضع بمعنى " لكن " .
الشرط الثالث : أن لا يكون مستغرقا ، فلو قال لفلان علي عشرة إلا عشرة لزمته العشرة ; لأنه رفع الإقرار ، والإقرار لا يجوز رفعه ، وكذلك كل منطوق به لا يرفع ، ولكن يتمم بما يجري مجرى الجزء من الكلام ، وكما أن الشرط جزء من الكلام فالاستثناء جزء ، وإنما لا يكون رفعا بشرط أن يبقى للكلام معنى .
أما فقد اختلفوا فيه ، والأكثرون على جوازه قال استثناء الأكثر رحمه الله : وقد نصرنا في مواضع جوازه ، والأشبه أن لا يجوز ; لأن القاضي العرب تستقبح استثناء الأكثر ، وتستحمق قول القائل : رأيت ألفا إلا تسعمائة وتسعة وتسعين ، بل قال كثير من أهل اللغة : لا يستحسن استثناء عقد صحيح بأن يقول : عندي مائة إلا عشرة أو عشرة إلا درهما بل مائة إلا خمسة ، وعشرة إلا دانقا ، كما قال تعالى : { فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما } فلو بلغ المائة لقال فلبث فيهم تسعمائة ، ولكن لما كان كسرا استثناه . قال ، ولا وجه لقول من قال : لا ندري استقباحهم اطراح لهذا الكلام عن لغتهم أو هو كراهة ، واستثقال ؟ لأنه إذا ثبت كراهتهم ، وإنكارهم ثبت أنه ليس من لغتهم ، ولو جاز في هذا لجاز في كل ما أنكروه ، وقبحوه من كلامهم .
احتجوا بأنه لما جاز استثناء الأقل جاز استثناء الأكثر ، وهذا قياس فاسد ، كقول القائل : إذا جاز استثناء البعض جاز استثناء الكل ، ولا قياس في اللغة . ثم كيف يقاس ما كرهوه ، وأنكروه على ما استحسنوه ؟ واحتجوا بقوله تعالى : { قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه } ، ولا فرق بين استثناء النصف والأكثر فإنه ليس بأقل وقال الشاعر :
أدوا التي نقصت تسعين من مائة ثم ابعثوا حكما بالحق قوالا
أن قوله تعالى : { قم الليل إلا قليلا نصفه } أي : قم نصفه ، وليس باستثناء ، وقول الشاعر ليس باستثناء ، إذ يجوز أن تقول : أسقطت تسعين من جملة المائة ; هذا ما ذكره ، والأولى عندنا أن هذا استثناء صحيح ، وإن كان مستكرها ، فإذا قال : علي عشرة إلا تسعة فلا يلزمه باتفاق الفقهاء إلا درهم ، ولا سبب له إلا أنه استثناء صحيح ، وإن كان قبيحا ، كقوله علي عشرة إلا تسع سدس ربع درهم ، فإن هذا قبيح لكن يصح ، وإنما المستحسن استثناء الكسر ، وأما قوله : عشرة إلا أربعة فليس بمستحسن بل [ ص: 260 ] ربما يستنكر أيضا ، لكن الاستنكار على الأكثر أشد ، وكلما ازداد قلة ازداد حسنا . القاضي