الفصل الثالث الوقت الذي يجوز للمجتهد الحكم بالعموم فيه .
فإن قال قائل : إذا لم يجز الحكم بالعموم يتبين انتفاء دليل الخصوص ، فمتى يتبين له ذلك ؟ وهل يشترط أن يعلم انتفاء المخصص قطعا أو يظنه ظنا ؟ قلنا : لا خلاف في أنه لا يجوز المبادرة إلى الحكم بالعموم قبل البحث عن الأدلة العشرة التي أوردناها في المخصصات ; لأن العموم دليل بشرط انتفاء المخصص ، والشرط بعد لم يظهر ، وكذلك كل دليل يمكن أن يعارضه دليل فهو دليل بشرط السلامة عن المعارضة فلا بد من معرفة الشرط ، وكذلك الجمع بعلة مخيلة بين الفرع ، والأصل دليل بشرط أن لا ينقدح فرق فعليه أن يبحث عن الفوارق جهده أو ينفيها ثم يحكم بالقياس ، وهذا الشرط لا يحصل إلا بالبحث .
ولكن المشكل أنه إلى متى يجب البحث ، فإن المجتهد ، وإن استقصى أمكن أن يشذ عنه دليل لم يعثر عليه ، فكيف يحكم مع إمكانه ؟ أو كيف ينحسم سبيل إمكانه ؟ وقد انقسم الناس في هذا على ثلاثة مذاهب : فقال قوم : يكفيه أن يحصل غلبة الظن بالانتفاء عند الاستقصاء في البحث ، كالذي يبحث عن متاع في بيت فيه أمتعة كثيرة فلا يجده ، فيغلب على ظنه عدمه ، وقائل يقول : لا بد من اعتقاد جازم ، وسكون نفس بأنه لا دليل ، أما إذا كان يشعر بجواز دليل يشذ عنه ، ويحيك في صدره إمكانه فكيف يحكم بدليل يجوز أن يكون الحكم به حراما ؟ نعم إذا اعتقد جزما ، وسكنت نفسه إلى الدليل جاز له الحكم كان مخطئا عند الله أو مصيبا ، كما لو سكنت نفسه إلى القبلة فصلى إليها .
وقال قوم : لا بد أن يقطع بانتفاء الأدلة ، وإليه ذهب ; ; لأن الاعتقاد الجزم من غير دليل قاطع سلامة قلب ، وجهل ، بل العالم الكامل يشعر نفسه بالاحتمال حيث لا قاطع ، ولا تسكن نفسه ، والمشكل على هذا طريق تحصيل القطع بالنفي ، وقد ذكر فيه القاضي مسلكين : القاضي
أحدهما : أنه إذا بحث في مسألة قتل المسلم بالذمي عن مخصصات قوله : { } مثلا ، فقال : هذه مسألة طال فيها خوض العلماء ، وكثر بحثهم ، فيستحيل في العادة أن يشذ عن جميعهم مدركها ، وهذه المدارك المنقولة عنهم علمت بطلانها فاقطع بأن لا مخصص لها . لا يقتل مؤمن بكافر
وهذا فاسد من وجهين : أحدهما : أنه حجر على الصحابة أن يتمسكوا بالعموم في كل واقعة لم يكثر الخوض فيها ، ولم يطل البحث عنها ، ولا [ ص: 257 ] شك في عملهم مع جواز التخصيص بل مع جواز نسخ لم يبلغهم كما حكموا بصحة المخابرة بدليل عموم إحلال البيع ، حتى روى النهي عنها . رافع بن خديج
الثاني : أنه بعد طول الخوض لا يحصل اليقين بل إن سلم أنه لا يشذ المخصص عن جميع العلماء فمن أين لقي جميع العلماء ، ومن أين عرف أنه بلغه كلام جميعهم ؟ فلعل منهم من تنبه لدليله ، وما كتبه في تصنيفه ، ولا نقل عنه ، وإن أورده في تصنيفه فلعله لم يبلغه ، وعلى الجملة لا يظن بالصحابة فعل المخابرة مع اليقين بانتفاء النهي ، وكان النهي حاصلا ، ولم يبلغهم بل كان الحاصل إما ظنا ، وإما سكون نفس .
المسلك الثاني : قال : لا يبعد أن يدعي المجتهد اليقين ، وإن لم يدع الإحاطة بجميع المدارك ، إذ يقول لو كان الحكم خاصا لنصب الله تعالى عليه دليلا للمكلفين ، ولبلغهم ذلك ، وما خفي عليهم ، وهذا أيضا من الطراز الأول فإنه لو اجتمعت الأمة على شيء أمكن القطع بأن لا دليل يخالفه إذ يستحيل إجماعهم على الخطإ ، أما في مسألة الخلاف كيف يتصور ذلك ، والمختار عندنا أن تيقن الانتفاء إلى هذا الحد لا يشترط ، وأن المبادرة قبل البحث لا تجوز بل عليه تحصيل علم ، وظن باستقصاء البحث ; أما الظن فبانتفاء الدليل في نفسه ، وأما القطع فبانتفائه في حقه بتحقيق عجز نفسه عن الوصول إليه بعد بذل غاية وسعه ، فيأتي بالبحث الممكن إلى حد يعلم أن بحثه بعد ذلك سعي ضائع ، ويحس من نفسه بالعجز يقينا ، فيكون العجز عن العثور على الدليل في حقه يقينا ، وانتفاء الدليل في نفسه مظنون ، وهو الظن بالصحابة في المخابرة ، ونظائرها ، وكذلك الواجب في القياس ، والاستصحاب ، وكل ما هو مشروط بنفي دليل آخر القاضي