قال الحراني : و" التبيين" : اقتطاع الشيء بما يلابسه ويداخله؛ والمراد المبالغة في البيان بما تفهمه صيغة التفعيل؛ وقال : " البيان" : الكشف عن الشيء؛ وهو أعم من النطق؛ وسمي الكلام " بيانا" ؛ لكشفه عن المعنى المقصود؛ وقال الراغب المولى خسرو: " التبيين" ؛ أعم من أن ينص بالمقصود؛ أو يرشد لما يدل عليه؛ كالقياس؛ ودليل الفعل؛ ولما أقام البراهين على استحقاقه - تعالى وتقدس - لمجامع المحامد وصفات الكمال؛ شهد له باستحقاق الألوهية؛ وإثباتها؛ ونفيها عما سواه؛ إشارة إلى أن تلك الشهادة الشريفة داخلة فيما أقيمت البراهين على استحقاقه (تعالى) إياه؛ بل استحقاق الألوهية أجل ظهورا؛ ومن ثم عطفه على الحمد؛ فصرح بما علم التزاما من سياق التنزيه قبله؛ فقال: (وأشهد) ؛ إلخ؛ ومن مرسومه أنه التصريح بدلالة مفهوم المنطوق لدفع احتمال توهم غيره؛ أو لحديث " أبي داود: "؛ بذال معجمة. كل خطبة [ ص: 14 ] ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء
وأصل الشهادة لغة: مأخوذة من المشاهدة؛ والمعاينة؛ ثم نقلت شرعا إلى الإخبار بحق الغير عن عيان؛ ثم نقلت إلى العلم بكثرة؛ كما هنا؛ وكذا حيث أطلقت في سائر الكتب؛ فتلك ثلاث انتقالات؛ إذ معناها هنا: " أعلم ذلك بقلبي؛ وأبينه بلساني؛ قاصدا به الإنشاء حال تلفظه" ؛ وكذا سائر الأذكار والتنزيهات؛ (أن لا إله) ؛ أي: لا معبود بحق؛ (إلا الله) ؛ جمع في الشهادتين بين النفي؛ والإثبات؛ مع تنزيه الإله الحق المثبت له ذلك؛ عما لا يليق بكمال جلال وحدانيته؛ (وحده) ؛ نصب على الحال؛ بمعنى: منفردا؛ وكذا حيث وقع؛ إلا ما استثني منه؛ كقولهم في المدح للعلامة: " نسيج وحده" ؛ بكسر الهاء؛ وفي الذم؛ لضعف الرأي: " عيير وحده" ؛ و" جحيش وحده" ؛ و" وجيه وحده" ؛ محتمل للمدح؛ والذم؛ (لا شريك) ؛ أي: لا مشارك؛ (له) ؛ إذ " الشريك" : من " المشاركة" ؛ وهي: المعاونة والمساعدة في الشيء؛ أو عليه؛ وذلك ينافي الألوهية؛ وهو تأكيد لتوحيد الذات؛ و" المتوحد" : ذو الوحدانية؛ وزاد مقام الخطاب - بالثناء؛ توضيحا وتقريرا؛ بقوله - ضرورة احتياجه إلى الغير؛ فانتفاؤه ضروري قطعا؛ وهو توكيد لتوحيد الأفعال؛ ردا على المعتزلة؛ ثم قيد الشهادة بما يفيد إثبات جزمه؛ وقوة قطعه؛ وعدم تزلزله؛ فقال: (شهادة يزيح ظلام الشكوك صبح يقينها) ؛ أي: أشهد به شهادة ثابتة جازمة؛ يزيل نور اعتقادها ظلمة كل شك؛ فهو استعارة بالكناية؛ لكونه نطقه بالشهادة نشأ عن جزم قلبه؛ وعقد لبه عليها؛ لأن نور اليقين لما كان واقعا لظلمات تشكيكات العدو اللعين؛ شبه بضوء الصبح المنتشر المرتفع عند تنحيته لظلام الليل؛ بجامع أن كلا منهما مزيل للظلمات؛ ومحصوله الإخبار عن قوة إيقانه؛ وغلبة سلطان إيمانه على جنانه؛ بحيث بلغ من مقامات القوة مبلغا عظيما إلى اليقين؛ وإن كان اعتقادا جازما مطابقا للواقع؛ لا يزول بالتشكيكات؛ لكنه متفاوت قوة وضعفا عند المحققين؛ بشهادة الوجدان؛ إذ الجزم بطلوع الشمس عند الرؤية أقوى من الجزم بالعاديات.
ثم عطف الشهادة الثانية على الأولى؛ فقال: (وأشهد) ؛ إلى آخره؛ إذ الإتيان بالشهادتين على الترتيب شرط؛ كما هو مذكور في شروط الإسلام الخمسة؛ وهي العقل؛ والتكليف؛ والإتيان بالشهادتين؛ وكونهما مرتبتين؛ وكون ذلك بالاختيار في حق غير الحربي؛ والكلام على هذه الشهادة كالذي قبلها؛ وكانتا بالعطف دونه في الأذان؛ لأنهما فيه تأكيد؛ هنا تعبد؛ (أن سيدنا) ؛ معشر الآدميين؛ أي: أشرفنا وأكرمنا على ربه؛ و" السيد" : المتولي للسواد؛ أي: الجماعة الكثيرة؛ ويضاف إلى ذلك؛ فيقال: " سيد القوم" ؛ ولا يقال: " سيد النوب" ؛ و" سيد الفرس" ؛ ويقال: " ساد القوم؛ يسودهم" ؛ ولما كان من شرط المتولي للجماعة الكثيرة كونه مهذب النفس؛ قيل لكل من كان فاضلا في نفسه؛ وإطلاق " السيد" ؛ على النبي - صلى الله عليه وسلم - موافق لحديث: " " ؛ ولكن هذا مقام الإخبار بنفسه عن مرتبته؛ ليعتقد أنه كذلك؛ وأما في ذكره؛ والصلاة عليه؛ فقد علمهم الصلاة عليه لما سألوه عن كيفيتها؛ بقوله: " قولوا: اللهم صل على محمد" ؛ فلم يذكر لفظ " السيد" ؛ وقد تردد أنا سيد ولد آدم ابن عبد السلام في أن الأفضل ذكر " السيد" ؛ رعاية للأدب؛ أو عدم ذكره؛ رعاية للوارد؛ ( محمدا ) ؛ عطف بيان؛ لا صفة؛ لتصريحهم بأن ذكره بعض علماء الروم؛ قال: وما ذكره الكشاف في العلم ينعت؛ ولا ينعت به؛ ذلكم الله ربكم ؛ أنه يجوز إيقاع اسم الله صفة لاسم الإشارة؛ أو عطف بيان؛ و" ربكم" ؛ خبر؛ إنما يصح بناء على تأويله بالمعرف باللام؛ وإلا فتجويز نعت اسم الإشارة بما ليس معرفا بها؛ وما ليس بموصول؛ مجمع على بطلانه؛ ولا بدل؛ لأن البدلية - وإن جوزت في ذكر رحمت ربك عبده زكريا - لكن القصد الأصلي هنا إيضاح الصفة السابقة؛ وتقرير النسبة تبع؛ والبدلية تستدعي العكس؛ وهو اسم مفعول من " التحميد" ؛ وهو المبالغة في الحمد؛ يقال: " حمدت فلانا؛ أحمده" ؛ إذا أثنيت على جميل خصاله؛ ويقال: " فلان محمود" ؛ فإذا بلغ النهاية؛ وتكاملت فيه المحاسن؛ فهو " محمد " ؛ لكن ذكر بعض المحققين أنه إنما هو من صيغ المبالغة؛ باعتبار ما قيل فيه من معنى الكثرة؛ وبخصوصه؛ لا من جهة الصفة؛ إذ لا يلزم من " زيد مفضل على عمرو" ؛ المبالغة في تفضيله عليه؛ إذ معناه: له جهة تفضيل عليه؛ وبفرض كونه للتكثير؛ لا يلزم منه المبالغة؛ لأنها تجاوز حد الكثرة؛ ولحصرهم صيغ المبالغة في عدد مخصوص؛ وكونه أجل من حمد؛ وأفضل من حمد؛ لا يستلزم وضع الاسم للمبالغة؛ لأن ذلك ثابت له لذاته؛ وإن لم يسم به؛ نعم؛ المناسبة قائمة به؛ مع ما مر من دلالة البناء عرفا على بلوغ النهاية في ذلك الوصف؛ (عبده) ؛ قدمه لكون العبودية مفتاحا لكل باب كمال؛ ففي ذكره من استحقاق الرحمة؛ واستجلاب الرفعة [ ص: 15 ] وترتب الشفقة؛ ما ليس من غيره؛ ولما فيه من الإيماء إلى أن مرتبة النبوة وهبية؛ لا كسبية؛ ولأن العبودية في الرسول - لكونها انصرافا من الخلق إلى الحق - أجل من رسالته؛ لكونها بالعكس؛ ولأن الكمال المستفاد من العبودية بما تستنزل به الكمالات؛ وتستمطر به البركات؛ بحكم " من تواضع لله رفعه الله" ؛ ولأن العبد يتكفل مولانا بإصلاح شأنه؛ والرسول يتكفل لمولاه بإصلاح شأن الأمة؛ وكم بينهما! وإضافته إليه (تعالى)؛ تشريفا للمضاف أي تشريف؛ وتنبيها على أن لهذا اللفظ الخاص كمال الاختصاص؛ و" العبد" ؛ لغة: الإنسان؛ حرا أو قنا؛ وعرفا: المكلف؛ يعني: من هو من جنس المكلفين؛ ولو صبيا أو جنينا؛ (ورسوله) ؛ إلى كافة الثقلين؛ والملائكة؛ أو إلى الأولين خاصة؛ وعليه الحليمي؛ بل حكى والبيهقي؛ الرازي والنسفي الإجماع عليه؛ لكن انتصر محققون - منهم السبكي - بالتعميم بآية: ليكون للعالمين نذيرا ؛ أو خبر: " " ؛ ونازعوا فيما حكي بأن أرسلت إلى الخلق كافة نقله عن البيهقي وتبرأ منه؛ الحليمي؛ والحليمي - وإن كان سنيا - لكن وافق المعتزلة في تفضيل الملك على البشر؛ فظاهر حاله بناؤه عليه؛ وبأن الاعتماد على تفسيرهما في حكاية الإجماع؛ انفرادا لحكايته؛ لا ينهض حجة عند أئمة النقل؛ لأن مدارك نقل الإجماع إنما تتلقى من كلام حفاظ الأمة؛ وأصحاب المذاهب المتبوعة؛ ومن يلحق بهم في سعة دائرة الاطلاع والحفظ والإتقان والشهرة عند علماء النقل؛ و" الرسول" ؛ و" النبي" ؛ طال فيما بينهما من النسبة الكلام؛ والمحققون - كما قال ابن الهمام -؛ كالزمخشري؛ والعضد؛ والتفتازاني؛ والشريف الجرجاني؛ على ترادفهما؛ وأنه لا فارق إلا الكتاب؛ قال " الرسول" ؛ من الأنبياء: من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه؛ و" النبي" : غير " الرسول" ؛ من لم ينزل عليه كتاب؛ وإنما أمر أن يدعو إلى شرع من قبله؛ انتهى؛ وقال في المقاصد: " النبي" : إنسان بعثه الله لتبليغ ما أوحى إليه؛ قال: وكذا " الرسول" ؛ قال الزمخشري: الكمال بن أبي شريف: هذا ينبئ عن اختياره للقول بترادفهما؛ وفي شرح العقائد؛ بعدما ذكر أنه لا يقتصر على عدد في تسمية الأنبياء؛ ما نصه: وكلهم كانوا مبلغين عن الله (تعالى)؛ لأن هذا معنى النبوة والرسالة؛ قال الكمال بن أبي شريف: هذا مبني على أن وقال الرسول والنبي واحد؛ في تفسيره: ولا معنى للنبوة والرسالة إلا أن يشهد على الله أنه شرع هذا الحكم؛ وفي المواقف - وشرحه في السمعيات -: " النبي" : من قال له الله (تعالى): أرسلتك إلى قوم كذا؛ أو إلى الناس جميعا؛ أو بلغهم عني؛ أو نحوه؛ ولا يشترط في الإرسال شرط؛ وفيه؛ في شرح الديباجة: " الرسول" : نبي معه كتاب؛ و" النبي" ؛ غير الرسول؛ من لا كتاب معه؛ بل أمر بمتابعة شرع من قبله؛ الإمام الرازي كيوشع.
قال المولى خسرو تبع - يعني الشريف صاحب الكشاف - في تفسير " الرسول" : واعتراضه بأنه لا يوافق المنقول في عدد الرسل والكتب؛ إذ الكتب نحو مائة؛ والرسل أكثر من ثلاثمائة؛ مدفوع بأن مراده بـ " من معه كتاب" ؛ أن يكون مأمورا بالدعوة إلى شريعة كتاب؛ سواء أنزل على نفسه؛ أو على نبي آخر؛ قال: والأقرب أن " الرسول" ؛ من أنزل عليه كتاب؛ أو أمر بحكم لم يكن قبله؛ وإن لم ينزل كتاب؛ و" النبي" ؛ أعم؛ لما في ذلك من النقص عما أورد على الأول من أنه يلزم عليه أن يكون من بعث بدون كتاب؛ ولا متابعة من قبله؛ خارجا عن " النبي" ؛ و" الرسول" ؛ معا؛ اللهم إلا أن يقال: إنه لا وجود لمثله؛ انتهى؛ وقال الشيباني - في شرح الفقه الأكبر -: " الرسول" : من بعث بشرع مجدد؛ و" النبي" ؛ يعمه؛ ومن بعث بتقرير شرع سابق؛ كأنبياء بني إسرائيل؛ الذين بين موسى وعيسى؛ ومن ثم شبه النبي - صلى الله عليه وسلم - علماء أمته بهم؛ قال: فإن قيل: كيف يصح هذا؛ وقد قال (تعالى): ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل ؛ وقد بين ذلك في الكشاف بالأنبياء بين موسى وعيسى؟ قلت: لعل المراد بـ " الرسل" ؛ في الآية؛ المعنى اللغوي؛ وقال ابن عطاء الله: من الناس من ظن أن " النبي" ؛ الذي هو نبي في نفسه؛ و" الرسول" ؛ هو الذي أرسل لغيره؛ وليس كما ظن؛ ولو كان كذلك فلماذا خص الأنبياء بالذكر دون الرسل؛ في قوله: " علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل " ؟ ومما يدل على بطلان هذا المذهب قوله (تعالى): وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ؛ الآية؛ فدل على أن حكم الإرسال يعمهما؛ وإنما الفرق أن النبي لا يأتي بشريعة جديدة؛ وإنما يجيء مقررا لشرع من قبله؛ ولهذا قال المصطفى: " علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل" ؛ أي: يأتون مقررين ومؤكدين وآمرين بما جئت به؛ لا بشرع جديد؛ وقال الصفوي: اختار بعض المحققين أن " الرسول" : نبي أتاه الملك - وقيل جبريل - بوحي؛ لا نوم؛ ولا إلهام؛ و" النبي" ؛ أعم؛ [ ص: 16 ] واعترض بعدم شموله لما لم يكن بواسطة؛ كما هو ظاهر المنقول في موسى؛ قبل نزول الملك عليه؛ ورفعه؛ بأنه يصدق عليه أنه أتاه في وقت لا ينجع؛ إذ يلزم أن يكون " النبي" ؛ قبل البعثة رسولا حقيقة؛ ولا قائل به.
وقد أفاد ما قرره المحققان؛ التفتازاني أن مجرد الإيحاء لا يقتضي نبوة؛ إنما المقتضي لها إيحاء بشرع وتكليف خاص؛ فخرج من بعث لتكميل نفسه؛ كزيد بن نفيل؛ ومن ثم قيل - ونعم ما قيل! -: يعتقد كثير أن النبوة مجرد الوحي؛ وهو باطل؛ وإلا لزم نبوة نحو " مريم" ؛ و" آسية" ؛ والتزامه شاذ. والجرجاني؛
وما أورد على التفتازاني - من أن قوله: " النبي" : من بعث لتبليغ ما أوحي إليه -؛ أنه لا يشمل المبعوث إليه لتبليغ ما أوحي لغيره؛ كما في بني إسرائيل؛ أجيب بأنه مأمور بتبليغ ذلك؛ وهو مما أوحي إليه؛ أو أن شرع غيره؛ المشير إليه؛ فيما أوحي إليه في الجملة.
ومن هذه النقول اللامعة؛ والمباحث الجامعة؛ عرف صحة عزو العلامة ابن الهمام القول بالترادف إلى المحققين؛ وأن الإمام الشهاب بن حجر قد انحرف هنا عن صوب الصواب؛ حيث حكم على من زعم الاتحاد بالغلط؛ ونسب الكمال بن الهمام إلى الاسترواح في نقله؛ والسقط؛ ثم قال: إن الذي في كلام أئمة الأصوليين خلاف الاتحاد؛ قال: رأي المحققين خلاف هؤلاء؛ فإن أراد أن محققي أئمة الأصوليين خلاف العضد والتفتازاني وأن هؤلاء ليسوا بمحققين؛ فهذا شيء لا يقوله محصل؛ وإن أرادهم؛ فهذه نصوصهم قد تليت عليك؛ ولسنا ننازعه في أن المشهور بين الفقهاء ما ذكره والجرجاني؛ من التغاير؛ وأن الفارق الأمر بالتبليغ؛ إنما الملام في إقدامه على تغليط ذلك المحقق؛ ونسبته إلى الغفول عن كلام المحققين؛ من رأس القلم؛(تتمة): قال بعض الأكابر: لم يشتغل الأكثر بتعريف " النبوة" ؛ و" الرسالة" ؛ بل بـ " النبي" ؛ و" الرسول" ؛ وقد عرفهما الأسد بن الأسد الحليمي في قوله: " النبوة" ؛ لا تكون عن قوة في النفس؛ كما قاله الحكماء؛ ولا عن رياضة يحصل بها الصفاء؛ فيحصل التجلي في النفس؛ كما قاله بعض الصوفية؛ ولا عن قربان الهياكل السبعة؛ كما قاله المنجمون؛ ولا هي بالإرث؛ كما قاله بعض أهل البيت؛ ولا هي علم المرء بربه؛ لأنه عام؛ ولا علم النبي بكونه نبيا؛ لتأخره بالذات عنها؛ بل هي صفة كلامية؛ هي قول الله (تعالى): " هو رسولي" ؛ وتصديقه بالأمر الخارق؛ إلى هنا كلامه. إمام الحرمين؛
وقال : " النبوة" ؛ قيل: سفارة العبد بين الله؛ وبين خلقه؛ وقيل: إزاحة علل ذوي العقول فيما تقصر عنه عقولهم من مصالح المعاش والمعاد. الراغب
وجمع بعض المحققين بينهما؛ فقال: سفارة بين الله وبين ذوي الألباب؛ لإزاحة عللهم فيما يحتاجون من مصالح الدارين؛ وهذا حد كامل جامع بين المبدإ في المقصود بالنبوة؛ وهي الخصوصية؛ وبين منتهاها؛ وهي إزاحة عللهم؛ انتهى.
(تنبيه) : إن قلت: لم عدل المؤلف عن " النبي" ؛ إلى " الرسول" ؟ قلت: لما كان المقام مقام بيان الأحكام؛ وتبليغ الأوامر؛ والنواهي؛ كان حقه أن يذكر فيه وصف الرسالة؛ ثم عقب ذلك بالرسالة؛ ثم عقب ذلك بالإشارة إلى ما يفيد مقصود البعثة؛ ويتفرع على النبوة؛ وهو غايتها؛ فقال: (المبعوث لرفع) ؛ أي: لأجل إعلاء (كلمة الإسلام) ؛ أي: تنفيذ أحكامها؛ من " الكلم" ؛ وهو التأثير؛ سمي بها اللفظ؛ لأنه يورث في النفس فرحا وانبساطا؛ إن كان طيبا؛ وهما إن لم يكن؛ والمراد بـ " الكلمة" : الكلام التام؛ أعني كلمة الشهادة؛ أو القرآن كله؛ على ما عليه المتقدمون؛ من عدم الفرق بين الكلمة والكلام؛ نقله القناوي عن شرح اللب؛ قال: وإعلاء كلمته: تنفيذ أحكامه؛ (وتشييدها) ؛ أي: إحكامها؛ ورفع منارها؛ وتوثيق عراها؛ و" الرفع" : الإعلاء؛ قال " رفعه؛ فارتفع" ؛ و" رفع؛ فهو رفيع" ؛ ومن المجاز: " رفعه على صاحبه في المجلس" ؛ ويقال للداخل: " ارتفع" ؛ و" ارتفع إلي" ؛ أي: تقدم؛ و" رفعت الرجل" ؛ نسبته - و" السند" : رفع الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أهـ. الزمخشري:
قال : " الرفع" ؛ يقال تارة في الأجسام الموضوعة؛ إذا أعليتها عن مقرها؛ وتارة في البناء؛ إذا طولته؛ وتارة في المنزلة؛ إذا شرفتها؛ وأمثلتها كل ما في النصوص؛ و" الإسلام" : الخضوع والانقياد الظاهر لما أخبر به الرسول. الراغب
قال في الكشاف: كل ما يكون من الإقرار باللسان؛ من غير مواطأة القلب؛ فهو إسلام؛ وما واطأ فيه القلب اللسان فهو إيمان؛ ومنه أخذ الدواني قوله: الإسلام الكامل الصحيح لا يكون إلا مع الإيمان؛ والإتيان بالشهادتين؛ والصلاة؛ والزكاة؛ والصوم؛ والحج؛ وقد ينفك الإسلام الظاهر عن الإيمان: قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ؛ ويصح أن يكون الشخص مسلما في ظاهر الشرع؛ ولا يكون مؤمنا حقيقة. [ ص: 17 ] والإسلام الحقيقي المقبول عند الله لا ينفك عن الإيمان الحقيقي؛ بخلاف العكس؛ انتهى؛ (وخفض) ؛ أي: ولأجل إهانة وإذلال (كلمة الكفر) ؛ من دعوى الند والشريك لله؛ أو الصاحبة؛ أو الولد؛ أو غير ذلك من صنوف الكفر؛ وضروب الضلال؛ (وتوهينها) ؛ أي: إضعافها وتحقيرها؛ و" الكفر" ؛ لغة: ستر النعمة؛ وأصله " الكفر" ؛ بالفتح؛ أي: الستر؛ ومنه سمي الزارع " كافرا" ؛ لستره البذر؛ وقيل: " الليل كافر" ؛ لذلك؛ ومنه " الكفارة" ؛ لأنها تكفر الذنب؛ أو تستره؛ ومنه:
.................... ... في ليلة كفر النجوم غمامها
ومنه: " المتكفر بسلاحه" ؛ أي: المغطي به بدنه؛ ثم نقل شرعا إلى عدم الإذعان لما علم مجيء الرسول به ضرورة؛ قولا أو فعلا؛ لما فيه من ستر نور الفطرة الأصلية؛ الذي هو بدر الكمال؛ ومحاولته الإبداع بذكر الخفض؛ والرفع؛ لا يحسن هنا؛ إذ لا يليق إلا بكتب النحو؛ والمناسب هنا ذكر المسند والمرسل والصحيح والضعيف والحسن؛ ونحو ذلك من أنواع علوم الحديث؛ ثم لما نعته بعلو الشأن؛ وظهور السلطان؛ ووصفه بما هو منشأ كل سعادة وكمال؛ تحرك قلبه إلى إنشاء الصلاة والسلام عليه؛ فقال: (صلى الله عليه وسلم) ؛ من " الصلاة" ؛ وهي من الله: الرحمة؛ ومنا: الدعاء؛ ومن الملك: استغفار؛ كذا أثر عن الخبر؛ قال المحقق الدواني: ومنها من زعم أنها ثنائية المعنى بالحقيقة؛ نظرا إلى أن الأخيرين يجمعهما طلب الرحمة؛ فإنها لم توضع للقدر المشترك؛ بل تارة لهذا الفرد؛ وتارة لذاك؛ وابن عباس أعرف منا بوضع اللغة؛ ولو صح ذاك أمكن إرجاعه إلى معنى واحد مشترك بين الأمور الثلاثة؛ كالإمداد بالرحمة؛ فلم يكن مشتركا لفظيا؛ بل معنويا؛ وكذا جميع الألفاظ المشتركة؛ يمكن جمع معانيها المتعددة في أمر واحد؛ فيبقى المشترك رأسا؛ وهو باطل قطعا؛ ثم تعلق لفظ " على" ؛ بهما؛ لتضمن معنى النزول؛ وقد أحسن من عبر عن معناه باستنزال الرحمة؛ إلى هنا كلامه؛ و" السلام" : التسليم من الآفات المنافية لغاية الكمال؛ وجمع بينهما لكراهة إفراد أحدهما؛ أي: لفظا؛ لا خطا؛ أو مطلقا؛ والجملة لإنشاء طلب الرحمة والسلام؛ وإن كانت بصورة الخبر؛ وجعلها خبرا معنى - لإنشاء الدعاء؛ قياسا على الحمد - أبطل بأن الإخبار بثبوت الحمد يستلزم حمدا؛ والإخبار بثبوت الدعاء لا يستلزم الدعاء.
ولما كان لآله وصحبه نوع مشاركة في التوسط؛ لمعاونتهم في التبليغ؛ أشركهم معه؛ فقال: (وعلى آله) ؛ أصله عند والبصريين - وعليه اقتصر الكشاف؛ وإليه مال سيبويه -: " أهل" ؛ بدليل: " أهيل" ؛ إذ التصغير يرد الأشياء إلى أصولها؛ قلبت هاؤها همزة؛ وهي ألفا؛ وعند الشاطبي " أول" ؛ بدليل: " أويل" ؛ وأيده الكسائي الجوهري؛ ونصره أبو شامة؛ زاعما أن الأول مجرد دعوى؛ وأن لغة العرب تأباه؛ وصححه في الارتشاف؛ فإن قلت: في الكشاف: الهاء أبدلت ألفا؛ وظاهره أنه مذهب ثالث؛ قلت: كلا؛ إذ مراده - كما قال بعض العظماء - أبدلت الهاء همزة؛ وهي ألفا؛ وبدل البدل بدل؛ فرجع إلى الأول؛ وخص استعماله - بعد القلب؛ أو مطلقا - بمن له شرف؛ ورفعة؛ من ذوي العقول؛ أي: ما نزل منزلتهم؛ للاهتمام بشأنه؛ فلا يرد النقض بنحو:
وانصر على آل الصليـ ... ـب وعابديه اليوم آلك
دينا؛ كـ " آل النبي" ؛ أو دينا؛ كـ " آل فرعون" ؛ أشار إليه المحققون؛ منهم وبه عرف أن قول البعض: إنما قيل: " آل فرعون" ؛ لتصورهم بصورة الأشراف؛ أو لشرفه في قومه؛ تكلف مستغنى عنه؛ نعم؛ هو في التنزيل وارد على منهج التهكم؛ كما بينه صاحب القاموس؛ في شرح خطبة الكشاف؛ على حد: البيضاوي؛ ذق إنك أنت العزيز الكريم ؛ على أن الاختصاص المذكور غالبي؛ فقد سمع استعماله في غير ذي عقل؛ لشرفه في جنسه؛ كقوله في فرس ليس في العرب أفحل منه؛ ولا أكثر نسلا:
.................. ... سوى ربذ التقريب من آل أعوجا
واختصاصه بالإضافة لذي الشرف لا ينافي التصغير؛ لأن التصغير يرد للتعظيم؛ وبفرض سواه فالتصغير في المضاف؛ مع أن مراتب الحظر متفاوتة؛ فيقبل التصغير؛ و" آل النبي" : من حرمت عليهم الزكاة؛ وهم بنو هاشم؛ عند الحنفية؛ والمطلب أيضا؛ عند الشافعية؛ قال البعض: والمؤمنون؛ وبنو تغلب؛ فيشمل إناثهم؛ لكن استدلالهم بخبر: " " ؛ يقتضي خلافه؛ وقيل: بنو غالب؛ وقيل: ذريته؛ أو أزواجه؛ وقيل: أتباعه؛ وقيل: أتقياء أمته؛ واختاره إن لكم في خمس الخمس النووي ؛ كجمع في مقام الدعاء؛ وجرى عليه الدواني؛ فقال: إذا أطلق في المتعارف؛ شمل الصحب والتابعين لهم بإحسان.
فإن قلت: هل لإتيانه بلفظ " على" ؛ هنا؛ من فائدة؟ قلت: نعم؛ وهي الإشارة إلى مخالفة الرافضة والشيعة؛ فإنهم مطبقون على كراهة الفصل بين [ ص: 18 ] النبي وآله بلفظ " على" ؛ وينقلون في ذلك حديثا - كما بينه المحقق الدواني؛ وصدر الأفاضل وغيرهما -؛ (وصحبه) ؛ اسم جمع لـ " صاحب" ؛ بمعنى " الشيرازي؛ " ؛ وهو لغة: من صحب غيره بما ينطلق عليه اسم " الصحبة" ؛ واصطلاحا: من لقي المصطفى؛ يقظة؛ بعد النبوة؛ وقبل وفاته؛ مسلما؛ وإن لم يره لعارض؛ كعمى؛ وإن لم يره المصطفى؛ ولو بلا مكالمة؛ ولا مجالسة؛ ككونه مارا؛ ولو بغير جهته؛ ولو لم يشعر كل بالآخر؛ أو تباعدا؛ أو كان أحدهما بشاهق؛ والآخر بوهدة؛ أو بئر؛ أو حال بينهما مانع مرور؛ كنهر يحوج إلى سباحة؛ أو ستر رقيق لا يمنع الرؤية؛ أو ماء صاف كذلك؛ إن عده العرف لقاء في الكل على الأقرب؛ من تردد وإسهاب فيه؛ وكذا لو تلاقيا نائمين؛ أو كان غير النبي مجنونا؛ محكوما بإسلامه على ما بحث؛ وقيل: لا؛ وقيل: إلا زمن إفاقته؛ وذلك لشرف منزلة النبي؛ فيظهر أثر نوره في قلب ملاقيه؛ وعلى جوارحه؛ فشمل التعريف غير المميز؛ وهو ما جرى عليه جمع؛ منهم الصحابي البرماوي؛ لكن اختير اشتراط التمييز؛ وعلى عدمه دخل من حنكه النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ كعبد الله بن الحارث؛ أو مسح وجهه؛ كعبد الله بن ثعلبة؛ أو رآه في مهده؛ كمحمد بن أبي بكر؛ والجن؛ كوفد نصيبين؛ واستشكال بأنه لا تعبد لنا بالرواية عنهم؛ رده الحافظ ابن الأثير ابن حجر؛ والأنبياء الذين اجتمعوا به ليلة الإسراء؛ والملائكة الذين اجتمعوا به فيها؛ أو غيرها؛ وبه جزم بعضهم؛ لكن جزم البلقيني بخروج النبي؛ والملك؛ ككل من رآه تلك الليلة؛ ممن لم يبرز لعالم الدنيا؛ وتبعه الكمال المقدسي؛ موجها بأن المراد الاجتماع المتعارف؛ لا ما وقع خرقا للعادة؛ وأيده بعض المحققين بأنه المتبادر عرفا من لفظ " اجتمع" ؛ أو " لقي" ؛ ومن هذا البيان انكشف ضعف جزم الذهبي؛ باستثناء عيسى؛ وإدخاله في التعريف؛ وما احتج به من اختصاصه عن بقية الأنبياء برفعه حيا؛ ونزوله الأرض؛ وحكمه بشرعه؛ لا ينهض حجة له عند التأمل.
وعدم الاعتداد بالرؤية الواقعة خرقا للعادة يفيد أنه [من] رأى بدنه الشريف فقط - كرامة له؛ بفرض وقوعه - غير صحابي؛ وإثبات الصحبة لمن أسلم في حياته ولم يره؛ شاذ؛ ودخل من رآه بعد البعثة؛ وقبل الأمر بالدعوة؛ كورقة؛ بخلاف من رآه قبل البعثة؛ وإن آمن بأنه سيبعث؛ كما في شرح العباب؛ وغيره؛ ومن لقيه مؤمنا بغيره - من أهل الكتاب؛ كما صرح به الحافظ ابن عبد البر ابن حجر في الإصابة؛ تبعا لما نقله وغيره عن الإمام ابن الأثير وغيره. البخاري
وعبارته في " أسد الغابة" : قال من صحب رسول الله؛ أو رآه من المؤمنين؛ فهو من أصحابه؛ ووقع لبعضهم في هذا المقام من الخيالات والأوهام ما كنا أومأنا أولا إلى شيء مما يدفعه؛ فغضب لذلك بعض من تمكن من قلبه داء الحسد؛ والحمية؛ وبلية المعصية للعصبية؛ وانتصب لدفع الإيراد بما هو قادح في أصل مطلوبه؛ ورام ترميمه وتتميمه بما عسى الفطرة السليمة؛ المبرأة عن العصبية تكفي مؤنة رده؛ لكنا مع ذلك تعرضنا لكشف حاله؛ وتزييف مقاله؛ في مؤلف مستقل؛ ثم إن المؤلف أورد من صفاتهم ما يدل على حيازتهم قصب السبق في مضمار المآثر؛ وتبرزهم على من سواهم في اقتناء المناقب والمفاخر؛ فقال: (ليوث الغابة) ؛ استعارة لفرط شجاعتهم؛ يعني أنهم أدحضوا الباطل بالبأس الساحق؛ والسيف الماحق؛ فكانوا كالأسود الضارية التي ما أتت على شيء إلا جعلته كالرميم. البخاري:
قال - في خطبة الاستيعاب -: روى ابن عبد البر ابن القاسم عن أن الصحب لما دخلوا مالك؛ الشام نظر إليهم رجل من أهل الكتاب؛ فقال: ما كان أصحاب عيسى ابن مريم الذين قطعوا بالسيوف والمناشير؛ وصلبوا على الجذوع؛ بأشد اجتهادا من هؤلاء؛ ومع ذلك كان عندهم للسلم والعفو موضع؛ فلم يكن الواحد منهم ضرارا قهارا دائما؛ بل كانوا - كمتبوعهم؛ حسبما يقتضيه المقام - في مكان القهر على العفو؛ وفي وقت السلم محض اللطف؛ أشداء على الكفار؛ رحماء بينهم؛ يعفون عمن ظلمهم؛ ويصلون من قطعهم؛ ويعطون من حرمهم؛ ويعينون على نوائب الدهر بطلاقة وجه؛ وسماحة نفس؛ وكف أذى؛ وبذل ندى؛ فهم - كما قيل فيهم -:
جبال الحجا أسد الوغى غصص العدا ... شموس العلا سحب الندى بالمواهب
و" الليوث" ؛ جمع " ليث" ؛ وهو الأسد؛ وخصه لأنه بمنزلة ملك الوحش؛ وأشده شكيمة؛ وأقواه نفسا وعزيمة؛ وأعظمه شجاعة وبطشا.
و" الغابة" : الأجمة من نحو قصب؛ أو شجر ملتف؛ تأوي إليه الأسود؛ سميت " غابة" ؛ لأنها تغيب ما فيها؛ يقال: " إنه ليث غابة" ؛ و" هو من ليوث الغابة" ؛ قال ومن المجاز: " إننا في غابة" ؛ أي: رماح كثيرة؛ كالشجر؛ وزاد قوله: (وأسد عرينها) ؛ دفعا لتوهم عدم احتمال إرادة الحيوان المفترس بلفظ " الليث" ؛ إذ الليث أيضا نوع من العنكبوت؛ و" الأسد" ؛ بضمتين؛ [ ص: 19 ] أو بضم فسكون: جمع " أسد" ؛ بفتحهما؛ قال الزمخشري: ومن المجاز: " استأسد عليه" ؛ أي: صار كالأسد في جراءته؛ و" العرين" ؛ و" العرينة" : مأواه الذي يألفه؛ يقال: " ليث غابة" ؛ و" ليث عرينة" ؛ ومن كلامهم: " كن أشم العرنين كالأسد في عرينه؛ لا كالجمل الأنف في عرانه - وهو العود الذي يجعل في وتره أنف البختي" ؛ ذكره الزمخشري: الزمخشري.
وعلم مما تقرر أن تشبيههم بالأسد استعارة بالكناية؛ وإثبات الغابة لهم استعارة تخييلية؛ رشحها بذكر العرين؛ (هذا) ؛ أي: المؤلف؛ الحاضر في العقل؛ استحضر المعاني التي جمعها فيه على وجه الإجمال؛ وأورد اسم الإشارة لبيانها؛ وأسماء الإشارة قد تستعمل في الأمور المعقولة؛ وإن كان وضعها للأمور المحسوسة المبصرة الحاضرة في مرأى المخاطب؛ لكن لا بد من نكتة؛ وهي هنا الإشارة إلى إتقانه هذه المعاني؛ حتى صارت لكمال علمه بها كأنها مبصرة عنده؛ ويقدر على الإشارة إليها؛ ذكره العصام؛ تلخيصا من كلام الدواني؛ وغيره؛ (كتاب) ؛ أي: مكتوب؛ وتنوينه للتعظيم؛ وهو في الأصل مصدر؛ سمي به المكتوب على التوسع؛ ثم غلب في العرف على جمع من الكلمات المستقلة بالتعيين؛ المفردة بالتدوين؛ وقال الحراني : " الكتاب" ؛ من " الكتب" ؛ وهو وصل الشيء المنفصل بوصلة خفيفة من أصله؛ كالخرز في الجلد يقد منه؛ والخياطة في الثوب بشيء من جنسه؛ ليكون أقرب لصورة اتصاله للأول؛ فسمي به ما ألزمه الناس من الأحكام؛ وما أثبت بالرقوم من الكلام؛ (أودعت) ؛ أي: صنت وحفظت؛ (فيه) ؛ أي: جعلته ظرفا لصون الحديث وحفظه؛ من " أودعته مالا" ؛ دفعته إليه ليكون وديعة محفوظة عنده؛ من " الدعة" ؛ وهي الراحة؛ كأن به تحصل الراحة لطالب الفن؛ بجمع ما هو مشتت في الأقطار؛ متفرق في الكتب الكبار؛ قال ومن المجاز: " أودعته سرا" ؛ و" أودع الوعاء متاعه" ؛ و" أودع كتابه كذا" ؛ و" أودع كلامه معنى حسنا" ؛ قال: الزمخشري:
أستودع العلم قرطاسا فضيعه ... فبئس مستودع العلم القراطيس
(من الكلم) ؛ بفتح فكسر؛ جمع " كلمة" ؛ كذلك " من الكلم" ؛ بفتح فسكون؛ وهو التأثير المدرك بإحدى الحاستين؛ السمع؛ والبصر؛ سمي به اللفظ لما مر.