الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                        البحر الرائق شرح كنز الدقائق

                                                                                        ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله وقصر إن نوى أقل منها أو لم ينو وبقي سنين ) أي أقل من نصف شهر ، وقد قدمنا تقريره ( قوله أو نوى عسكر ذلك بأرض الحرب وإن حاصروا مصرا و حاصروا أهل البغي في دارنا في غيره ) معطوف على قوله نوى أقل منه [ ص: 144 ] أي وقصر إن نوى عسكر نصف شهر بأرض الحرب ولا فرق بين أن يكون العسكر مشغولين بالقتال أو المحاصرة ، ولا فرق في المحاصرة بين أن تكون للمدينة أو للحصن بعد أن دخلوا المدينة ، ولا فرق بين أن يكون العسكر في أرض الحرب أو أرض الإسلام مع أهل البغي في غير المصر ; لأن نية الإقامة في دار الحرب أو البغي لا تصح ; لأن حالهم يخالف عزيمتهم للتردد بين القرار والفرار ; ولهذا قال أصحابنا في تاجر دخل مدينة لحاجة ، ونوى أن يقيم خمسة عشر يوما لقضاء تلك الحاجة لا يصير مقيما ; لأنه متردد بين أن يقضي حاجته فيرجع وبين أن لا يقضي فيقيم فلا تكون نيته مستقرة كنية العسكر في دار الحرب ، وهذا الفصل حجة على من يقول من أراد الخروج إلى مكان ويريد أن يترخص ترخص السفر ينوي مكانا أبعد منه وهذا غلط كذا ذكر التمرتاشي ا هـ .

                                                                                        كذا في معراج الدراية ، وعلى هذا واقعة الفتوى وهي أن إنسانا يحلف بالطلاق أنه يسافر في هذا الشهر فينوي مسيرة ثلاثة أيام ويقصد مكانا قريبا فهذا لم يكن مخلصا له لتعارض نيته إذ الأولى ليست بنية أصلا وأطلق في العسكر فشمل ما إذا كانت الشوكة لهم وقيد به ; لأن من دخل دار الحرب بأمان فنوى إقامة نصف شهر فيها فإنه يتم أربعا ; لأن أهل الحرب لا يتعرضون له لأجل الأمان كذا في النهاية وأشار إلى أن الأسير لو انفلت من أيدي الكفار وتوطن في غار ونوى الإقامة خمسة عشر يوما لم يصر مقيما كما لو علم أهل الحرب بإسلامه فهرب منهم يريد السفر ثلاثة أيام ولياليها لم تعتبر نيته كذا في الخلاصة

                                                                                        وفي فتاوى قاضي خان وحكم الأسير في دار الحرب حكم العبد لا تعتبر نيته والرجل الذي يبعث إليه الوالي أو الخليفة ليؤتى به إليه فهو بمنزلة الأسير ، وفي التجنيس عسكر المسلمين إذا دخلوا دار الحرب وغلبوا في مدينة إن اتخذوها دارا يتمون الصلاة ، وإن لم يتخذوها دارا و لكن أرادوا الإقامة بها شهرا أو أكثر فإنهم يقصرون ; لأنها في الوجه الثاني بقيت دار حرب وهم محاربون فيها ، وفي الوجه الأول ا هـ .

                                                                                        ( قوله بخلاف أهل الأخبية ) حيث تصح منهم نية الإقامة في الأصح ، وإن كانوا في المفازة ; لأن الإقامة أصل فلا تبطل بالانتقال من مرعى إلى آخر إلا إذا ارتحلوا عن موضع إقامتهم في الصيف وقصدوا موضع إقامتهم في الشتاء وبينهما مسيرة ثلاثة أيام فإنهم يصيرون مسافرين في الطريق وظاهر كلام البدائع أن أهل الأخبية مقيمون لا يحتاجون إلى نية الإقامة فإنه جعل المفاوز لهم كالأمصار والقرى لأهلها ولأن الإقامة للرجل أصل والسفر عارض وهم لا ينوون السفر ، وإنما ينتقلون من ماء إلى ماء ومن مرعى إلى آخر ا هـ .

                                                                                        والأخبية جمع خباء : البيت من صوف أو وبر ، فإن كان من الشعر فليس بخباء كذا في ضياء الحلوم ، وفي المغرب : الخباء الخيمة من الصوف ا هـ .

                                                                                        والمراد هنا الأعم لما في البدائع من التسوية بين من يسكن في بيت صوف أو بيت شعر وقيد بأهل الأخبية ; لأن غيرهم من المسافرين لو نوى الإقامة معهم فعن [ ص: 145 ] أبي يوسف روايتان وعند أبي حنيفة لا يصيرون مقيمين ، وهو الصحيح كذا في البدائع ، وفي المجتبى : والملاح مسافر إلا عند الحسن وسفينته أيضا ليست بوطن .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( قول المصنف أو حاصروا أهل البغي في دارنا في غيره ) أي غير المصر ظاهره أنه لو حاصروهم في المصر لا يقصرون ووقع التقييد به أيضا في الجامع الصغير والهداية والدرر ومواهب الرحمن وعبارة الهداية وكذلك إذا حاصروا أهل البغي في دار الإسلام في غير مصر أو حاصروهم في البحر ; لأن حالهم مبطل عزيمتهم ا هـ .

                                                                                        وقد صرح بهذا المفهوم العيني في شرح هذا المختصر بقوله وأما إذا حاصروهم في مصر من أمصار المسلمين تصح نيتهم للإقامة بلا خلاف ا هـ .

                                                                                        وصرح في النهر أيضا بأنهم يتمون ، ولم يتعرض له الزيلعي والمقدسي كالمؤلف لكن قال في العناية قوله ; لأن حالهم مبطل عزيمتهم يشير إلى أن المحل ، وإن كان صالحا لكن ثمة مانعا آخر ، وهو أنهم إنما يقيمون لغرض فإذا حصل انزعجوا فلا تكون نيتهم مستقرة وهذا [ ص: 144 ] التعليل يدل على أن قوله في غير مصر وقوله في البحر ليس بقيد حتى لو نزلوا مدينة أهل البغي وحاصروهم في الحصن لم تصح نيتهم أيضا ; لأن مدينتهم كالمفازة عند حصول المقصود لا يقيمون فيها ا هـ .

                                                                                        وفي معراج الدراية ، ثم التقييد بقوله في غير مصر وفي البحر يوهم أنهم لو نزلوا مدينة أهل البغي وحاصروهم وهم في الحصن تصح نية الإقامة لكن إطلاق ما ذكر في المبسوط يدل على أنه ليس كذلك فإنه قال : وكذا إذ حاربوا أهل البغي في دار الإسلام أما التعليل فيشمل المفازة والمدينة إلا أنه قيد في الجامع الصغير بغير المصر وبالبحر ; لأنه في عدم الجواز أبعد عن توهم الجواز في غير المصر أو البحر ، ثم بسط الكلام في التوجيه فراجعه وقد أطلقه في السراج والذخيرة .

                                                                                        والحاصل أن المفهوم من عبارات المتون كالهداية أن عسكرنا لو حاصر أهل البغي ، والعسكر داخل المصر من ديار الإسلام تصح نيتهم الإقامة والمفهوم من إطلاق المبسوط والسراج والذخيرة ، وهو مقتضى التعليل أنها لا تصح وظاهر كلام العناية والمعراج اختياره وبه جزم الشرنبلالي في نور الإيضاح والله أعلم .

                                                                                        ( قوله لم يصر مقيما ) ظاهر ما في الفتح أن علة ذلك عدم قطعه بالإقامة هذه المدة ; لأنه إذا وجد فرصة قبل تمام المدة يخرج كمن دخل المصر لحاجة معينة ونوى الإقامة مدتها ( قوله لم تعتبر نيته ) قال في شرح المنية هكذا وقع في الخلاصة وفتاوى قاضي خان ولعل المراد ، ولم تعتبر نيته الإقامة بعد ذلك وإلا فقد ذكر السروجي عن الذخيرة أن الأسير إذا انفلت من العدو فوطن نفسه على إقامة نصف شهر في غار أو نحوه قصر ; لأنه محارب للعدو ، وكذا إذا أسلم فهرب منهم فطلبوه ليقتلوه فخرج هاربا مسيرة السفر ا هـ .

                                                                                        فهذا يدل على أنه يقصر ، وكذا صرح بأنه يقصر في التتارخانية بعلامة المحيط فتعين حمل تلك العبارة على ما قلنا ولا يصح غير ذلك ا هـ .

                                                                                        أي ليس المراد من قوله لا تعتبر نيته أن نية السفر في هذه الحالة لا تصح بل المراد لا تعتبر نيته للإقامة ، وهو في هذه الحالة ; لأن حالته تنافي عزيمته .




                                                                                        الخدمات العلمية