الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        قال رحمه الله ( ولو اصطدم فارسان أو ماشيان فماتا ضمن عاقلة كل دية الآخر ) وقال زفر والشافعي رحمه الله تعالى يجب على عاقلة كل واحد نصف دية الآخر وروي ذلك عن علي رضي الله عنه ; لأن كل واحد منهما مات بفعله وفعل صاحبه فيعتبر نصفه ويهدر النصف كما إذا كان الاصطدام عمدا وجرح كل واحد منهما نفسه وصاحبه أو حفرا على قارعة الطريق بئرا فانهدم عليهما أو وقفا فيه يجب على كل واحد منهما النصف فكذا هذا ولنا أن قتل كل واحد منهما مضاف إلى فعل صاحبه ; لأن فعله في نفسه مباح كالمشي في الطريق فلا يعتبر في حق الضمان بالنسبة إلى نفسه ; لأنه مباح مطلقا في حق نفسه ولو اعتبر ذلك لوجب نصف الدية فيما إذا وقع في بئر في قارعة الطريق ; لأنه لولا مشيه وثقله في نفسه لما هوى في البئر وفعل صاحبه ، وإن كان مباحا لكنه مقيد بشرط السلامة في حق غيره فيكون سببا للضمان عند وجود التلف به وروي عن علي رضي الله عنه أنه أوجب كل الدية على عاقلة كل واحد منهما فتعارضت روايتان فرجحنا ما ذكرنا ويحتمل ما روي عنه أنه أوجب كل الدية على الخطأ توفيقا بينهما ، وأما ما استشهدا به من الاصطدام وجرح كل منهما نفسه وصاحبه وحفر البئر في الطريق فعلى كل واحد محظور مطلقا فيعتبر في حق نفسه أيضا فيكون قاتلا لنفسه وهذا الحكم الذي ذكرناه في العمد والخطأ في الحرين ولو كانا عبدين هدر الدم ; لأن المولى فيه غير مختار للفداء ولو كان أحدهما حرا والآخر عبدا يجب على عاقلة الحر قيمة العبد كلها في الخطأ ونصفها في العبد فيأخذها ورثة الحر المقتول ويبطل ما زاد عليه لعدم الخلف وهذا عند أبي حنيفة ومحمد ; لأن قيمة العبد المقتول تجب على العاقلة على أصلهما ; لأنه ضمان الآدمي .

                                                                                        وإذا تجاذب رجلان حبلا فانقطع الحبل فسقطا أو ماتا ينظر ، فإن وقعا على القفا لا تجب لهما دية ; لأن كل واحد منهما مات بقوة نفسه ، وإن وقعا على الوجه وجب على عاقلة كل واحد منهما دية الآخر ، وإن قطع إنسان الحبل بينهما فوقع كل واحد منهما على القفا فديتهما على عاقلة القاطع وكذا على هذا سائر الضمانات وقد قدمنا شيئا من هذا عند قوله ولو ضرب بطن امرأته فراجعه قال في النهاية وفي تقييد الفارسين في الكتاب بقوله ، وإذا اصطدم الفارسان ليست زيادة فائدة ، فإن الحكم في اصطدام الماشيين وموتهما بذلك كذلك ذكره في المبسوط سوى أن موت المصطدمين في الغالب إنما يكون في الفارسين . ا هـ .

                                                                                        وقال في العناية آخذا من النهاية حكم الماشيين حكم الفارسين لكن لما كان موت المصطدمين غالبا في الفارسين خصهما بالذكر . ا هـ .

                                                                                        وقال في معراج الدراية وكذا الحكم إذا اصطدم الماشيان والتقييد بالفارسين اتفاقي أو بحسب الغالب . ا هـ .

                                                                                        وتبعه الشارح العيني أقول : عجيب من هؤلاء الشراح مثل هذه التعسفات مع كون وجه التقييد بالفارسين بينا ; لأن الباب الذي عرفته باب جناية البهيمة والجناية عليها ولا يخفى أن اصطدام الماشيين ليس من ذلك في شيء فكان خارجا عن مسائل هذا الباب رجل وجد في زرعه في الليل ثورين فظن أنهما لأهل القرية فبانا أنهما لغيرهم فأراد أن يدخلهما فدخل واحد وفر آخر فتبعه ولم يقدر عليه فجاء صاحبه يضمنه قال الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل إن كان نيته عند الأخذ أن يمنعه من صاحبه يضمن

                                                                                        وإن كان نيته أن يرد إلا أنه لم يقدر لم يضمن فقيل إن كان ذلك بالنهار قال إن كان لغير أهل القرية كان لقطة ، فإن ترك الإشهاد مع القدرة عليه يضمن ، وإن لم يجد شهودا يكون عذرا ، وإن كان لأهل القرية فكما أخرجه يكون ضامنا وقال القاضي علي السغدي ، وإن وجد في زرعه دابة فساقها بقدر ما يخرجها عن ملكه ; لا يكون ضامنا ، فإذا ساق وزاد وراء ذلك القدر [ ص: 411 ] يصير غاصبا بالسوق والصحيح ما قاله القاضي علي السغدي عبدان التقيا ومع كل واحد عصا فضربا وبرئا خير مولى كل واحد منهما بالآخر ولا يتراجعان بشيء سوى ذلك ; لأن كل واحد منهما ملك عبده من صاحبه ولا يفيد التراجع ; لأنه لو رجع أحدهما لرجع الآخر ; لأن حق كل واحد منهما ثبت في رقبة كاملة فما يأخذ أحدهما من صاحبه فذاك بدل الآخر وتعلق به حقه فلا يفيد الرجوع ، وإن اختار الفداء فدى كل واحد بجميع أرش جنايته لأنهما لما ضربا معا فقد جنى كل واحد منهما على عبد صحيح فتعلق حق كل واحد من الموليين بعبد صحيح فيجب بدل عبد صحيح ، وإن سبق أحدهما بالضربة خير المولى مولى البادئ ; لأن البداية من مولى اللاحق لا تفيد ، لأن حق اللاحق في عبد صحيح كامل الرقبة ، فإذا دفع إلى البادئ عبدا مشجوجا كان للاحق أن يسترد منه ثانيا ; لأنه يقول عبدك شج عبدي وهو صحيح ودفعت إلي عبدك بدل تلك الشجة فيكون لي والبداية من مولى البادئ بالدفع مفيدة ; لأن حق البادئ ثبت في عبد مشجوج فمتى دفعه مشجوجا لا يكون له أن يسترده فكان دفعه مفيدا .

                                                                                        فإن دفعه فالعبد للمدفوع إليه ولا شيء للدافع ; لأنه لو رجع البادئ بشيء كان للمدفوع إليه أن يرجع عليه ثانيا ; لأن حقه في رقبة عبد صحيح فلا يفيد رجوع البادئ ، وإن فداه خير مولى اللاحق بين الدفع والفداء ; لأنه ظهر عند البادئ عن الجناية بالفداء وصار كأنه لم يجن ، وإن جنى عليه العبد اللاحق فإن مات البادئ كانت قيمته في عنق الثاني يدفع بها أو الفداء ، فإن فداه بقيمة الميت رجع في تلك القيمة بأرش جراحته عبدا ; لأن بالفداء أظهر عبدا للاحق عن الجناية وصار كأنه لم يجن ، وإنما جنى عليه البادئ والبادئ وإن مات فالقيمة قامت مقامه ; لأنه حق قائم مقامه ، وإن دفعه رجع بأرش شجة عبده في عنقه ويخير المدفوع إليه بين الدفع والفداء ; لأن المدفوع قام مقام الميت الشاج ، وإن مات العبد القاتل خير مولى العبد البادئ ، وإن فداه أو دفع بطل حقه في شجة عبده ; لأنه حين شج اللاحق البادئ كان اللاحق مشجوجا فثبت حق مولى البادئ في عبد مشجوج فثبت حقه فيما وراء الشجة فمات لا إلى خلف لما مات العبد القاتل فبطل حق مولى البادئ في شجة عبده ولو مات البادئ من شيء آخر سوى الجناية وبقي اللاحق خير مولى البادئ ويقال له إن شئت فاعف عن مولى اللاحق ولا سبيل لواحد منهما على الآخر ، وإن شئت ادفع أرش شجة اللاحق وطالبه بحقك وإن دفع إلى صاحبه أرش عبده يرجع بأرش جناية عبده فيدفع مولى اللاحق عبده بها أو يفديه أما المفهوم فلأن مولى البادئ بجنايته إذا دفع كان لمولى اللاحق أن يطالبه بأرش شجة عبده وكان لمولى البادئ أن يدفع إليه العبد المدفوع ثانيا إليه عن حقه فلا يفيده الدفع .

                                                                                        وإنما دفع أرش شجة اللاحق ; لأنه متى دفع أرش عبد اللاحق فقد طهر البادئ عن الجناية وصار كأنه لم يجن ، وإنما جنى عليه العبد اللاحق فيخاطب مولى اللاحق بالدفع والفداء وأي ذلك اختار لا يبقى لواحد منهما على صاحبه سبيل ; لأنه وصل إلى كل واحد منهما حقه ، وإن أبى مولى البادئ أن يدفع الأرش فلا شيء له في عتق الآخر ، فإن مولى البادئ كان مخيرا بين العفو وبين دفع الأرش والمطالبة شجة لعبده ، فإذا امتنع من دفع الأرش صار مختارا للعفو وصار كأنه قال عفوتك عن حقي فيبطل حقه ولو مات اللاحق وبقي البادئ خير مولاه ، فإن دفعه بطل حقه ، وإن فداه بأرش عبده وفي الفداء ; لأن البادئ طاهر عن الجناية لعفو أحدهما عن جنايته نصف العبد ولا يزداد حقه فكذا هذا .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        الخدمات العلمية