الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                        البحر الرائق شرح كنز الدقائق

                                                                                        ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( باب طلب الشفعة ) لما لم تثبت الشفعة بدون الطلب شرع في بيانه وكيفيته وتقسيمه زاد في الهداية والخصومة فيها ووجهه لما كان للخصومة في الشفعة شأن مخصوص وتفاصيل زائدة على سائر الخصومات شرع في بيانها أيضا قال رحمه الله ( فإن علم الشفيع بالبيع أشهد في مجلسه على الطلب ) وهو طلب المواثبة وسمي به لقوله عليه الصلاة والسلام { الشفعة لمن واثبها } ولا بد منه لما بينا والشرط أن يطلب إذا علم الفور من غير تأخير ولا سكوت ; لأن سكوته بعد علمه يدل على رضاه بالمشتري فتبطل شفعته إذا كان بعد العلم بالمشتري والثمن ; لأن السكوت إنما يكون دليل الرضا بالعلم بها ، فإذا أخبر بحضرة شهود يشهدهم عليه ، وإن لم يكن بحضرته أحد يطلب من غير إشهاد والإشهاد لمخالفة الجحود والطلب لا بد منه كي لا يسقط حقه فيما بينه وبين الله تعالى ولتمكنه من الحلف إذا حلف ولئلا يكون معرضا عنها وراضيا ، وكون الطلب متصلا يعني على الفور هذا عند عامة المشايخ وروى هشام عن محمد أن له التأمل إلى آخر المجلس كالمخير ; لأنه تملك ولا بد من التأمل وهو اختيار الكرخي وبعض المشايخ وفي التجريد هو أصح الروايتين وفي الفتاوى العتابية ولو سكت مكرها لا يبطل وكيفية الطلب على الصحيح أن يكون بلفظ الماضي أو المستقبل إذا كان لفظه يفهم منه طلب الشفعة وفي الظهيرية شفعته لي كان ذلك طلبا ومن الناس من لو قال طلبت وأخذت بطلت شفعته ; لأن كلامه وقع كذبا في الابتداء والصحيح أنه لا يبطل ; لأنه أنشأ عرفا ولو قال بعدما بلغه الخبر الحمد لله أو لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم أو سبحان الله لا تبطل شفعته على ما اختاره الكرخي ; لأن الأول حمد على الخلاص والثاني تعجب والثالث لافتتاح الكلام ولا يدل شيء منها على الأعراض وكذا إذا قال من ابتاعها أو بكم بيعت ; لأنه يرغب فيها بثمن دون ثمن وكذا لو قال خلص الله ولا يجب الطلب حتى يخبره رجلان غير عدلين أو واحد عدل أو رجل وامرأتان ; لأنه فيه التزام من وجه فيشترط له أحد شطري الشهادة هذا قول الإمام وعندهما يجب عليه الطلب إذا أخبره واحد حرا كان أو عبدا صغيرا كان أو كبيرا إذا كان الخبر حقا ولو أخبره المشتري بنفسه يجب عليه الطلب بالإجماع كيفما كان ; لأنه خصم والعدد والعدالة لا تعتبر في الخصم .

                                                                                        قال رحمه الله ( ثم على البائع لو في يده أو على المشتري أو عند العقار ) وهذا طلب التقرير وفيه طلب ثالث وهو طلب الأخذ ولا بد من هذه الثلاثة ولا بد من الإشهاد في هذا ; لأنه يحتاج إليه لإثباته عند القاضي كما تقرر ولا يمكنه الإشهاد على طلب المواثبة ظاهرا حتى لو أمكنه ذلك وأشهد عند طلب المواثبة بأن بلغه بحضرة الشهود والمشتري والبائع حاضر وكان ذلك عند العقار يكفيه ويقوم ذلك مقام الطلبين ذكره شيخ الإسلام وفي العناية ولو باع إلى أجل فاسد فعجل المشتري الثمن جاز البيع وثبتت الشفعة وكذا إذا باع الأرض وفيها زرع وفي الخيار المؤبد والأجل إلى القطاف جاز أخذه بالشفعة ، فإن لم يطلب بطلت وإذا اشترى رجل من أهل البغي دارا من رجل في عسكر أهل العدل ، فإن كان لا يقدر أن يبعث وكيلا ولا يدخل بنفسه هو على شفعته ولا يضره ترك طلب الإشهاد ، وإن كان يقدر على ذلك [ ص: 147 ] فلم يطلب طلب المواثبة بطلت شفعته وكيفية هذا الطلب أن ينهض من المكان الذي سمع فيه ويشهد على البائع إن كان المبيع في يده أو على المشتري أو عند العقار ، فإذا فعل ذلك استقرت شفعته ، وإنما صح الإشهاد عند هؤلاء الثلاثة ; لأن المشتري والبائع خصم فيه بالملك وباليد ، أما عند العقار فلتعلق الحق به ولا يكون البائع خصما بعد تسليم المبيع إلى المشتري لعدم الملك واليد فلا يصح الإشهاد عليه بعده هكذا ذكره القدوري والناطفي .

                                                                                        وذكر شيخ الإسلام أنه يصح استحسانا ومدة هذا الطلب مقدرة بالتمكن من الإشهاد مع القدرة على أحد هؤلاء الثلاثة حتى لو تمكن ولم يطلب بطلت شفعته ، وإن قصد الأبعد بعد هذه الثلاثة وترك الأقرب ، فإن كانوا جميعا في مصره جازا استحسانا ; لأن نواحي المصر جعلت كناحية واحدة حكما كأنهم في مكان واحد ولو كان بعضهم فيه والبعض في مصر آخر أو في الرستاق وقصد الأبعد وترك الذي في مصره بطلت شفعته قياسا واستحسانا لتباين المكانين حقيقة وحكما ، وإن كان الشفيع غائبا يطلب طلب المواثبة حين يعلم ثم يعذر في طلب التقدير بقدر المسافة إلى أحد هذه الثلاثة وصورة هذا الطلب أن يقول إن فلانا اشترى هذه الدار وأنا شفيعها وقد كنت طلبت الشفعة وأطلبها الآن فاشهدوا على ذلك وعن أبي يوسف أنه يشترط تسمية المبيع وتحديده ; لأن طلبه غير معلوم لا يصح .

                                                                                        فإذا لم يبين المطلوب لم تكن المطالبة لها اختصاص بالبيع فلم يكن لها حكم حتى يتبين المطلوب ، أما الثالث وهو طلب الأخذ والتملك فلا بد منه أيضا ; لأنه لا يحكم له به بدون طلبه ونبين كيفية هذا الطلب من قريب إن شاء الله تعالى وفي الهداية ويشترط الطلب عند سقوط الخيار في الصحيح فلو ترك الطلب قبله لم تبطل شفعته وفي الخانية لو عجز عن طلب الإشهاد بأن كان البائع أو المشتري في البغاة أو دار الحرب ، فإن أمكنه أن يوكل بالطلب أو يكتب كتابا به ولم يفعل بطلت شفعته ، فإن لم يمكنه التوكيل والكتابة لا تبطل وفي فتاوى أبي الليث إن كانت شفعته عند القاضي فطلب إلى السلطان الذي يولي القضاء بطلت شفعته ، وإن كانت شفعته عند الباشاه والسلطان وامتنع القاضي من إحضاره فهو على شفعته وفي النوادر إذا أراد أن يفتتح الصلاة بجماعة فلم يذهب للطلب بطلت شفعته وفي الأصل الشفيع إذا علم بالبيع نصف الليل ولم يقدر على الخروج للإشهاد ، فإن أشهد حين أصبح صح ، وإن ترك الإشهاد حين أصبح بطلت ، اليهودي إذا علم يوم السبت وترك الطلب بطلت شفعته وفي فتاوى أهل سمرقند الشفيع بالجوار إذا خاف أن يطلب الشفعة والقاضي لا يراها فترك الطلب لا تبطل شفعته إذا اتفق البائع والمشتري أن الشفيع علم بالشراء منه أياما ثم اختلفا بعد ذلك في الطلب فقال الشفيع طلبت منذ علمت وقال المشتري ما طلبت القول قول المشتري وفي الظهيرية لو قال المشتري علمت قبل ذلك ولم تطلب فالقول قول الشفيع وفي نوادر أبي يوسف إذا قال الشفيع طلبت الشفعة حين علمت فالقول قوله ولو قال علمت أمس وطلبت أو كان البيع أمس وطلبتها في ذلك الوقت لم يصدق إلا ببينة .

                                                                                        وهكذا ذكر الخصاف في أدب القاضي حكي عن الشيخ عبد الواحد الشيباني رضي الله تعالى عنه أنه قال إذا قال الشفيع علمت بالشراء وطلبت طلب المواثبة لا يقبل بلا بينة منه لكن إذا قال بعد ذلك علمت منذ كذا وطلبت لا يصدق على الطلب ولو قال ما علمت إلا الساعة يكون كاذبا فالحيلة في ذلك أن يقول لإنسان أخبرني بالشراء ثم يقول الآن أخبرت فيكون صادقا .

                                                                                        وإن أخبر قبل ذلك كما في الصغيرة إذا بلغت في نصف الليل واختارت نفسها وأرادت أن تشهد على ذلك تقول حضت الآن ولا تقول حضت نصف الليل واخترت نفسي ، فإنها لا تصدق في اختيارها نفسها لكن تقول على نحو ما سبق وتكون صادقة في قولها الآن حضت وذكر محمد بن مقاتل في نوادره إن كان الشفيع قد طلب الشفعة من المشتري في الوقت المتقدم ويخشى أنه إذا أقر بذلك يحتاج إلى البينة فقال أخبرت وأنا أطلب الشفعة يسعه أن يقول ذلك ويحلف على ذلك ويستثني في يمينه ، وإن قال الشفيع كنت طلبت الشفعة حين علمت بالبيع وأنكر المشتري ذلك وطلب الشفيع يمين المشتري ذكر في الهاروني وأدب القاضي للخصاف أنه يحلف المشتري على نفي العلم أنه ما طلب شفعته وأنه ما طلب ولم يذكر فيه خلافا وذكر الفقيه أنه قول أبي يوسف وقال محمد رحمه الله تعالى أحلفه على البت بالله تعالى ما طلبت شفعته حين بلغك الشراء [ ص: 148 ] فإن قال المشتري للقاضي حلفه بالله لقد طلب هذه الشفعة طلبا صحيحا ساعة علم بالشراء من غير تأخير حلفه القاضي على ذلك ، وإن أقام المشتري بينة أن الشفيع علم بالبيع منذ زمان ولم يطلب الشفعة وأقام الشفيع بينة أنه طلب الشفعة حين علم بالمبيع فالبينة بينة الشفيع في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف البينة بينة المشتري وفي فتاوى أبي الليث رحمه الله تعالى المشتري إذا أنكر طلب الشفعة فالقول قوله مع يمينه فبعد ذلك ينظر عند سماع البيع يحلف على العلم بالله ما تعلم أن الشفيع حين سمع البيع طلب الشفعة ، وإن أنكر طلبه عند اللقاء يحلف على البتات في سماعه

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        الخدمات العلمية