الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                        البحر الرائق شرح كنز الدقائق

                                                                                        ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله : ونوم مضطجع ومتورك ) بيان للنواقض الحكمية بعد الحقيقية والنوم فترة طبيعية تحدث في الإنسان بلا اختيار منه وتمنع الحواس الظاهرة والباطنة عن العمل مع سلامتها واستعمال العقل مع قيامه فيعجز العبد عن أداء الحقوق وللعلماء في النوم طريقتان ذكرهما في المبسوط وتبعه شراح الهداية إحداهما أن النوم ليس بناقض إنما الناقض ما لا يخلو عنه النائم فأقيم السبب الظاهر مقامه كما في السفر وكما إذا دخل الكنيف وشك في وضوئه ، فإنه ينتقض وضوءه لجريان العادة عند الدخول في الخلاء بالتبرز .

                                                                                        الثانية : أن عينه ناقض وصحح في السراج الوهاج الأول فاختاره الزيلعي مقتصرا عليه ; لأنه لو كان ناقضا لاستوى وجوده في الصلاة وخارجها فما في التوشيح من أن عينه ليس بناقض اتفاقا فيه نظر ، ولما كان النوم مظنة الحدث أدير الحكم على ما يتحقق معه الاسترخاء على الكمال ، وهو في المضطجع والاضطجاع وضع الجنب على الأرض يقال ضجع الرجل إذا وضع جنبه بالأرض واضطجع مثله كذا في الصحاح ويلحق به المستلقي على قفاه والنائم المستلقي على وجهه

                                                                                        وأما من نام واضعا أليتيه على عقبيه وصار شبه المنكب على وجهه واضعا بطنه على فخذيه لا ينتقض وضوءه كذا في النهاية والمعراج وعزاه في فتح القدير إلى الذخيرة ثم قال : وفي غيرها لو نام متربعا ورأسه على فخذيه نقض ، وهذا يخالف ما في الذخيرة ا هـ .

                                                                                        وفي المحيط لو نام قاعدا واضعا أليتيه على عقبيه شبه المنكب قال محمد عليه الوضوء وقال أبو يوسف : لا وضوء عليه ، وهو الأصح ا هـ . فأفاد أن في المسألة اختلافا بين الصاحبين وأن ما في النهاية وغيرها هو الأصح أطلق في المضطجع فشمل المريض إذا نام في صلاته مضطجعا وفيه خلاف والصحيح النقض وقيل لا ; لأن نومه قاعدا كنوم الصحيح قائما ، وأما التورك فلفظ مشترك ، فإن كان بمعنى أن جلسته تكشف عن المخرج كما إذا نام على أحد وركيه أو معتمدا على أحد مرفقيه فهذا ناقض ، وهو مراد المصنف بدليل ما علل به في الكافي

                                                                                        وإن كان بمعنى أن يبسط قدميه من جانب ويلصق أليتيه بالأرض فهذا غير ناقض كما في الخلاصة ولم يذكر المصنف الاستناد إلى شيء لو أزيل عنه لسقط ; لأنه لا ينقض في ظاهر المذهب عن أبي حنيفة إذا لم تكن مقعدته زائلة عن الأرض كما في الخلاصة وبه أخذ عامة المشايخ ، وهو الأصح كما في البدائع ، وإن كان مختار القدوري النقض ، وأما إذا كانت مقعدته زائلة ، فإنه ينقض اتفاقا ، وهو بمعنى التورك فلذا تركه وفي الخلاصة ، ولو نام على رأس التنور وهو جالس قد أدلى رجليه كان حدثا وفي المبتغى ، ولو نام محتبيا ورأسه على ركبتيه لا ينقض وفي المحيط لو نام على دابة ، وهي عريانة قالوا إن كان في حالة الصعود والاستواء لا يكون حدثا ، وإن كان في حالة الهبوط يكون حدثا ; لأن مقعدته متجافية عن ظهر الدابة ا هـ .

                                                                                        وفي هذه المواضع التي يكون فيها حدثا فهو بمعنى التورك فلم يخرج عن كلام المصنف وقيد المصنف بنوم المضطجع والمتورك ; لأنه لا ينقض نوم القائم ولا القاعد ، ولو في السراج أو المحمل كما في الخلاصة ولا الراكع ولا الساجد مطلقا إن كان في الصلاة

                                                                                        وإن كان خارجها فكذلك إلا في السجود ، فإنه يشترط أن يكون على الهيئة المسنونة له بأن يكون رافعا بطنه عن فخذيه مجافيا عضديه عن جنبيه ، وإن سجد على غير هذه الهيئة انتقض وضوءه ; لأن في الوجه الأول الاستمساك باق [ ص: 40 ] والاستطلاق منعدم بخلافه في الوجه الثاني ، وهذا هو القياس في الصلاة إلا أنا تركناه فيها بالنص كذا في البدائع وصرح الزيلعي بأنه الأصح وسجدة التلاوة وفي هذا كالصلبية وكذا سجدة الشكر عند محمد خلافا لأبي حنيفة كذا في فتح القدير وكذا في سجدتي السهو كذا في الخلاصة وأطلق في الهداية الصلاة فشمل ما كان عن تعمد وما كان عن غلبة وعن أبي يوسف إذا تعمد النوم في الصلاة نقض والمختار الأول وفي فصل ما يفسد الصلاة من فتاوى قاضي خان لو نام في ركوعه أو سجوده إن لم يتعمد لا تفسد ، وإن تعمد فسدت في السجود دون الركوع ا هـ .

                                                                                        كأنه مبني على قيام المسكة حينئذ في الركوع دون السجود ومقتضى النظر أن يفصل في ذلك السجود إن كان متجافيا لا تفسد ، وإلا تفسد كذا في فتح القدير

                                                                                        وقد يقال مقتضى الأصح المتقدم أن لا ينتقض بالنوم في السجود مطلقا وينبغي حمل ما في الخانية على رواية أبي يوسف وفي جامع الفقه أن النوم في الركوع والسجود لا ينقض الوضوء ، ولو تعمده ولكن تفسد صلاته كذا في شرح منظومة ابن وهبان وفي الخلاصة لو نام قاعدا فسقط على الأرض عن أبي حنيفة أنه إن انتبه قبل أن يصيب جنبه الأرض أو عند إصابة جنبه الأرض بلا فصل لم ينتقض وضوءه وعن أبي يوسف أنه ينتقض وعن محمد أنه إن انتبه قبل أن تزايل مقعدته الأرض لم تنقض وضوءه ، وإن زايل مقعدته الأرض قبل أن ينتبه انتقض والفتوى على رواية أبي حنيفة قال شمس الأئمة الحلواني : ظاهر المذهب عن أبي حنيفة كما روي عن محمد قيل هو المعتمد وسواء سقط أو لم يسقط وإن نام جالسا ، وهو يتمايل ربما تزول مقعدته عن الأرض وربما لا تزول قال شمس الأئمة الحلواني : ظاهر المذهب أنه لا يكون حدثا ، ولو وضع يده على الأرض فاستيقظ لا ينتقض الوضوء سواء وضع [ ص: 41 ] بطن الكف أو ظهر الكف ما لم يضع جنبه على الأرض قبل التيقظ ا هـ .

                                                                                        وقيدنا بالنوم ; لأن النعاس مضطجعا لا ذكر له في المذهب والظاهر أنه ليس بحدث

                                                                                        وقال أبو علي الدقاق وأبو علي الرازي : إن كان لا يفهم عامة ما قيل عنده كان حدثا كذا في شروح الهداية وبهذا تبين أن ما في التبيين على قول الشيخين لا على الظاهر وعليه يحمل ما في سنن البزار بإسناد صحيح كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون الصلاة فيضعون جنوبهم فمنهم من ينام ثم يقوم إلى الصلاة ، فإن النوم مضطجعا ناقض إلا في حق النبي صلى الله عليه وسلم صرح في القنية بأنه من خصوصياته ; ولهذا ورد في الصحيحين { أن النبي صلى الله عليه وسلم نام حتى نفخ ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ } لما ورد في حديث آخر { إن عيني تنامان ولا ينام قلبي } ولا يشكل عليه ما ورد في الصحيح من { أنه نام ليلة التعريس حتى طلعت الشمس } ; لأن القلب يقظان يحس بالحدث وغيره مما يتعلق بالبدن ويشعر به القلب ، وليس طلوع الفجر والشمس من ذلك ولا هو مما يدرك بالقلب وإنما يدرك بالعين ، وهي نائمة ، وهذا هو المشهور في كتب المحدثين والفقهاء كذا في شرح المهذب .

                                                                                        [ ص: 39 ]

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        [ ص: 39 ] ( قوله : وصحح في السراج الوهاج الأول ) وقد سئل العلامة ابن الشلبي عن شخص به انفلات ريح هل ينتقض وضوءه بالنوم فأجاب بعدم النقض بناء على هذا قال ومن ذهب إلى أن النوم نفسه ناقض لزم نقض وضوء من به انفلات الريح بالنوم ا هـ .

                                                                                        أقول : وهذا أحسن من قول النهر ينبغي أن يكون عينه أي النوم ناقضا اتفاقا فيمن فيه انفلات ريح إذ ما لا يخلو عنه النائم لو تحقق وجوده لم ينقض فالمتوهم أولى . ا هـ .

                                                                                        ( قوله : فأفاد أن في المسألة اختلافا بين الصاحبين ) قال الرملي : أقول : ينبغي أن يترتب النقض على وجود الاستمساك وعدمه ويوفق بين القولين به ويلوح ذلك من تقييد صاحب النهاية والمحيط المسألة بقوله واضعا أليتيه على عقبيه وإطلاق مسألة التربع فتأمل ( قوله : وقيل لا ; لأن نومه قاعدا كنوم الصحيح ) صوابه ; لأن نومه مضطجعا ; لأن الكلام فيه ( قوله : ولا الساجد مطلقا ) أي سواء كان على الهيئة المسنونة أم لا كما يفسره ما بعده

                                                                                        ( قوله ; لأن في الوجه الأول ) ، وهو السجود على الهيئة المسنونة والمراد بالاستطلاق ما روي في حديث { العينان وكاء السه فإذا نامت العينان انطلق الوكاء } والوكاء الخيط الذي يربط به فم القربة والسه بالسين المهملة ويحرك الاست جمعه أستاه وبالكسر ويضم العجز أو حلقة الدبر قاموس [ ص: 40 ] ( قوله : وهذا هو القياس في الصلاة ) أي النقض حالة النوم في السجود على غير الهيئة المسنونة هو القياس في الصلاة لعدم الاستمساك كما في خارج الصلاة إلا أنه ترك القياس فيها واعتبر في خارجها للنص الوارد فيها ، وهو لا وضوء على من نام قائما أو راكعا أو ساجدا إنما الوضوء على من نام مضطجعا ذكره الزيلعي وغيره فإن كان مراد الشارح بالنص هذا فهو كما ترى غير مقيد بالصلاة إلا أن يقال إن المتبادر من قوله أو راكعا أو ساجدا أن يكون في الصلاة والأقرب أن يكون مراده ما في معراج الدراية حيث قال وجه ظاهر الرواية ما روي وأنه عليه الصلاة والسلام قال { إذا نام العبد في سجوده يباهي الله تعالى به ملائكته فيقول انظروا إلى عبدي روحه عندي وجسده في طاعتي } قال : وإنما يكون جسده في الطاعة إذا بقي وضوءه وجعل هذا الحديث في الأسرار من المشاهير ثم إن الزيلعي قال بعدما ذكر النص السابق

                                                                                        وإن كان خارج الصلاة فكذلك في الصحيح إن كان على هيئة السجود بأن كان رافعا بطنه عن فخذيه مجافيا عضديه عن جنبيه ، وإلا ينقض وضوءه ، ا هـ .

                                                                                        فقول الشارح وصرح الزيلعي بأنه الأصح الضمير المنصوب فيه يعود إلى قوله وإن كان خارجها فكذلك إلا في السجود إلخ خلاف ما يوهمه ظاهر العبارة من أنه راجع إلى قوله ، وهذا هو القياس إذ هو أقرب والأحسن إرجاعه إلى قوله كذا في البدائع ; لأن ما في البدائع من التفصيل هو ما ذكره الزيلعي ومما يؤيد أن الضمير ليس راجعا إلى ما هو القياس قوله الآتي مقتضى الأصح المتقدم إلخ وبه سقط نسبة السهو إلى المؤلف التي ذكرها في النهر ثم إنه يفهم من كلام الزيلعي ومن كلام الشارح أيضا أن عدم الفساد في سجود الصلاة مطلقا متفق عليه مع أنه نقل في النهر عن عقد الفرائد ما نصه إنما لا يفسد الوضوء بنوم الساجد في الصلاة إذا كان على الهيئة المسنونة قيد به في المحيط وهو الصحيح ا هـ .

                                                                                        وكذلك ذكره الشرنبلالي في متنه نور الإيضاح حيث قال في الأشياء التي لا تنقض الوضوء ومنها نوم مصل ولو راكعا أو ساجدا إذا كان على جهة السنة في ظاهر المذهب قال في النهر إلا أن هذا لم يوجد في المحيط الرضوي . ا هـ .

                                                                                        ( قوله : وأطلق في الهداية الصلاة ) صوابه النوم بدل الصلاة ( قوله : وينبغي حمل ما في الخانية على رواية أبي يوسف ) وحينئذ الذي تقدم من رواية أبي يوسف أنه إذا تعمد النوم في الصلاة نقض وكذا في الفتح ، وهي كما ترى غير مقيدة بالسجود تأمل ثم رأيت غاية البيان ما نصه وروي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى في الإملاء أنه إذا تعمد النوم في السجود ينقض ، وإن غلبت عيناه فلا ينقض ا هـ .

                                                                                        وبه يترجح الحمل المذكور ، ويكون المراد حينئذ مما تقدم من قوله في الصلاة أي في سجودها فقط فافهم ثم في شرح الشيخ إسماعيل اعتراض هذا الحمل بقوله أقول : ولا يخفى أنه لا يلزم من فساد الصلاة انتقاض الوضوء لما في السراج لو قرأ أو ركع وسجد وهو نائم تفسد صلاته ; لأنه زاد ركعة كاملة لا يعتد بها ولا ينتقض وضوءه ا هـ .

                                                                                        ولم يحكم في الخانية على الوضوء بالنقض والظاهر أن في البحر غفولا عن ذلك فتدبره ا هـ .

                                                                                        أقول : والأقرب الاستدلال على أنه لا يلزم من فساد الصلاة [ ص: 41 ] نقض الوضوء بما ذكره هنا من عبارة جوامع الفقه لكن قد يقال إن الظاهر أن ما في الخانية من الفساد مبني على نقض الوضوء لتفريقه بين الركوع والسجود تأمل ( قوله : والظاهر أنه ليس بحدث ) قال في معراج الدراية : لأنه نوم قليل ( قوله : وبهذا تبين أن ما في التبيين على قول الشيخين ) أي الدقاق والرازي وعبارة التبيين : هكذا والنعاس نوعان : ثقيل : وهو حدث في حالة الاضطجاع وخفيف ، وهو ليس بحدث فيها والفاصل بينهما أنه إن كان يسمع ما قيل عنده فهو خفيف ، وإلا فهو ثقيل انتهت وليس فيها التقييد بالفهم فهو غير ما ذكره الشيخان إلا أن يعتبر تقييد السماع بالفهم فيمكن حمله عليه لكن ليس فيه لفظ عامة المشعرة بفهم البعض بل ظاهره عدم سماع الجميع إلا أن يقال عامة بمعنى الجميع لكن يبقى فيه إشكال ، وهو أنه إذا كان المراد به أنه لا يسمع ولا يفهم جميع ما قيل عنده فهو نائم لا ناعس ، وإلا فما الفرق بينهما على أن الذي في معراج الدراية من كلام الشيخين ، وإن كان يسهو حرفا أو حرفين فلا ا هـ .

                                                                                        فعامة ليس بمعنى الجميع ويمكن أن يحمل السماع على الفهم كما قال شيخنا ويقدر لفظ أكثر في كلام الزيلعي أي إن كان يفهم أكثر ما قيل عنده فهو خفيف ، وإلا فهو كثير فيتوافق الكلامان هذا غاية ما يمكن في هذا المحل فليتأمل ( قوله : وعليه يحمل ما في سنن البزار ) أي يحمل النوم فيه على النعاس .




                                                                                        الخدمات العلمية