( قوله : فحلفه على ماض كذبا عمدا غموس ) بيان لأنواعها وهي ثلاثة كما في أكثر الكتب : الأول الغموس وهو أن سميت غموسا ; لأنها تغمس صاحبها في الذنب ، ثم في النار وسيأتي حكمها أطلق في الماضي فشمل الفعل والترك كما صرح به يحلف على أمر ماض يتعمد الكذب فيه صدر الشريعة وقال فإن قلت : إذا قيل : والله إن هذا حجر كيف يصح أن يقال : إن هذا الحلف على الفعل قلت : تقدر كلمة كان أو يكون إذا أريد في الزمن الماضي أو المستقبل ، وقوله : كذبا عمدا حالان من الضمير في حلفه بمعنى كاذبا متعمدا ويصح أن يكونا صفتين لمصدر محذوف أي [ ص: 302 ] حلفا ، وفي المبسوط إن الغموس ليست بيمين حقيقة ; لأنها كبيرة محضة ، واليمين عقد مشروع ، والكبيرة ضد المشروع ولكن سميت يمينا مجازا ; لأن ارتكاب هذه الكبيرة بصورة اليمين كما سمي بيع الحر بيعا مجازا لوجود صورة البيع فيه ا هـ .
وقيد المصنف بالماضي في الغموس واللغو قالوا ويتأتيان أيضا في الحال ففي الغموس نحو والله ما لهذا علي دين وهو يعلم خلافه ، و والله إنه زيد وهو يعلم أنه عمرو ، وفي غاية البيان وما وقع من التقييد بالماضي فهو بناء على الغالب لأن الماضي شرط ا هـ .
وفي شرح الوقاية فإن قلت : الحلف كما يكون على الماضي والآتي يكون على الحال فلم لم يذكره أيضا وهو من أقسام الحلف قلت : إنما لم يذكره لمعنى دقيق وهو أن الكلام يحصل أولا في النفس فيعبر عنه باللسان فالإخبار المعلق بزمان الحال إذا حصل في النفس فعبر عنه باللسان فإذا تم التعبير باللسان انعقد اليمين فزمان الحال صار ماضيا بالنسبة إلى زمان انعقاد اليمين فإذا قال كتبت لا بد من الكتابة قبل ابتداء التكلم وأما إذا قال سوف أكتب فلا بد من الكتابة بعد الفراغ من التكلم يعني ابتداء الزمان الذي من ابتداء التكلم إلى آخره فهو زمان الحال بحسب العرف وهو ماض بالنسبة إلى آن الفراغ وهو آن انعقاد اليمين فيكون الحلف عليه الحلف على الماضي ا هـ .
وإنما لم يقل المصنف الأيمان ثلاثة كما قال غيره ; لأنها لا تنحصر في الثلاثة ; لأن اليمين على الفعل الماضي - صادقا - ليس منها ، وجواب صدر الشريعة بأن المراد حصر الأيمان التي يترتب عليها الأحكام ليس بدافع ; لأن هذه اليمين كاللغو لا إثم فيها فكان لها حكم .
( قوله : وظنا لغو ) أي حلفه على ماض يظن أنه كما قال - والأمر بخلافه - لغو فقوله ظنا معطوف على كذبا سميت به ; لأنه لا اعتبار بها ، واللغو اسم لما لا يفيد يقال لغا إذا أتى بشيء لا فائدة فيه ، وفي المغرب اللغو الباطل من الكلام ومنه لما لا يعقد عليه القلب وقد لغا في الكلام يلغو ويلغي ولغا يلغي ومنه قوله : فقد لغوت وقد اختلف في تفسيره شرعا فذكر اللغو في الأيمان المصنف تبعا للهداية وكثير أنها كقوله والله لقد دخلت الدار والله ما كلمت زيدا أو رأى طائرا من بعيد فظنه غرابا فقال والله إنه غراب ، أو قال إنه زيد وهو يظنه كذلك والأمر بخلافه في الكل ومن الصفات ما في الخلاصة الحلف على ماض يظن أنه كما قال من فعل ، أو ترك ، أو صفة والأمر بضده أرجو أن لا يحنث ا هـ . رجل حلفه السلطان أنه لم يعلم بأمر كذا فحلف ، ثم تذكر أنه كان يعلم
وقدمنا أنها تكون في الحال أيضا ومثله في المجتبى بقوله والله إن المقبل زيد يظنه زيدا فإذا هو عمرو ، وفي البدائع قال أصحابنا : هي اليمين الكاذبة خطأ ، أو غلطا في الماضي ، أو في الحال وهو أن يخبر عن الماضي ، أو عن الحال على ظن أن المخبر به كما أخبر وهو بخلافه في النفي ، أو في الإثبات وهكذا روى ابن رستم عن أنه قال : اللغو أن يحلف الرجل على الشيء وهو يرى أنه حق وليس بحق وقال محمد يمين اللغو هي اليمين التي لا يقصدها الحالف وهو ما يجري على ألسن الناس في كلماتهم من غير قصد اليمين من قولهم : لا والله وبلى والله سواء كان في الماضي ، أو في الحال ، أو المستقبل ، وأما عندنا فلا لغو في المستقبل بل اليمين على أمر في المستقبل يمين معقودة وفيها الكفارة إذا حنث قصد اليمين ، أو لم يقصد . الشافعي
وإنما اللغو في الماضي والحال فقط وما ذكر محمد على إثر حكايته عن أن اللغو ما يجري بين الناس من قولهم لا والله وبلى والله فذلك محمول عندنا على الماضي ، أو الحال وعندنا ذلك لغو فيرجع حاصل الخلاف بيننا وبين أبي حنيفة في يمين [ ص: 303 ] لا يقصدها الحالف في المستقبل فعندنا ليست بلغو وفيها الكفارة وعنده هي لغو ولا كفارة فيها ا هـ . الشافعي
وهو أعم مما في المختصر باعتبار أن اليمين التي لا يقصدها الحالف في الماضي ، أو الحال جعلها لغوا وعلى تفسير المصنف لا تكون لغوا ; لأن الحلف على أمر يظنه كما قال لا يكون إلا عن قصد لا أن يقال إنه يكون لغوا بالأولى فلا مخالفة فالحاصل أن تفسيرنا اللغو أعم من تفسير وأنا نقول بقول الشافعي إلا في المستقبل وذكر الشافعي الإمام السرخسي في أصوله قال علماؤنا : اللغو ما يكون خاليا عن فائدة اليمين شرعا ووضعا فإن إظهار الصدق من الخبر فإن أضيف إلى خبر ليس فيه احتمال الصدق كان خاليا عن فائدة اليمين فكان لغوا وقال فائدة اليمين : ما يجري على اللسان من غير قصد ، ولا خلاف في جواز إطلاق اللفظ على كل واحد منهما ولكن ما قلناه أحق واستدل بقوله تعالى { الشافعي وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه } الآية ومعلوم أن مراد المشركين التعنت أي لم تقدروا على المغالبة بالحجة فاشتغلوا بما هو خال عن الفائدة من الكلام ليحصل مقصودكم بطريق المغالبة دون المحاجة ولم يكن مقصودهم التكلم بغير قصد قال صاحب التقويم : ولم يرد تكلموا من غير قصد فإن الأمر به لا يستقيم ا هـ .
وفي المحيط : والصحيح قولنا لأن اللغو من الكلام ما ليس بصواب ولا حسن فإن اللغو من الكلام القبيح الفاحش منه قال الله تعالى { لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما } أي كلاما قبيحا فاللغو هو الكلام القبيح الفاحش والخطأ الذي هو ضد العمد ليس بقبيح فاحش فلا يكون لغوا فأما ما ذكرنا فهو كلام قبيح فاحش فإنه كذب والكذب قبيح ; لأنه محظور ، وأما الخطأ فليس بمحظور ا هـ .
وفي الخلاصة والخانية واللغو لا يؤاخذ به صاحبه إلا في الطلاق والعتاق والنذر ، وفي فتاوى محمد بن الوليد لو لزمه ذلك ا هـ . قال إن لم يكن هنا فلان فعلي حجة ولم يكن وكان لا يشك أنه فلان
فقد علمت أن على غالب الظن إذا تبين خلافه موجب لوقوع الطلاق وقد اشتهر عن الشافعية خلافه . ( قوله : وأثم في الأولى دون الثانية ) أي أثم إثما عظيما كما في الحاوي القدسي في اليمين الأولى وهي يمين الغموس دون اليمين الثانية وهي يمين اللغو والإثم في اللغة الذنب وقد سمي الخمر إثما ، وفي الاصطلاح عند اليمين بالطلاق أهل السنة استحقاق العقوبة وعند المعتزلة لزوم العقوبة بناء على جواز العفو وعدمه كما أشار إليه الأكمل في تقريره في بحث الحقيقة في بحث { } ، وإنما أثم في الأولى لحديث إنما الأعمال بالنيات مرفوعا { ابن حبان } وفي الصحيحين { من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم حرم الله عليه الجنة وأدخله النار } ، وفي سنن لقي الله وهو عليه غضبان أبي داود قال قال النبي عليه السلام { } . من حلف على يمين مصبورة كاذبا فليتبوأ مقعده من النار
والمراد بالمصبورة الملزمة بالقضاء أي المحبوس عليها ; لأنها مصبور عليها كذا في فتح القدير ، والأولى الاستدلال بحديث عن البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم { عبد الله بن عمر } فإنه أعم من أن يقتطع بها مال امرئ مسلم ، أو لا وقد صرح في غاية البيان وغيرها بأن قال الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس وهو أعم كما ذكرنا وينبغي أن تكون كبيرة إذا اقتطع بها مال امرئ مسلم ، أو أذاه وتكون صغيرة إذا لم يترتب عليها مفسدة ، وإنما لم يأثم في الثانية لقوله تعالى { اليمين الغموس كبيرة لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } ولهذا جزم المصنف بعدم الإثم في اللغو لكن لم يجزم به وإنما علقه بالرجاء فقال الأيمان ثلاثة يمين مكفرة ويمين غير مكفرة ويمين نرجو أن لا يؤاخذ بها الله تعالى صاحبها فاعترض عليه بأنه كيف يعلقه بالرجاء مع أنه مقطوع به فاختلف المشايخ في الجواب عنه ففي الهداية إلا أنه علقه بالرجاء للاختلاف في تفسيره ا هـ . الإمام محمد بن الحسن
وتعقبه في فتح القدير بأن الأصح أن اللغو [ ص: 304 ] بالتفسيرين الأولين وكذا بالثالث متفق على عدم المؤاخذة في الآخرة وكذا بالدنيا بالكفارة فلم يتم العذر عن التعليق بالرجاء فالأوجه ما قيل إنه لم يرد به التعليق بل التبرك باسم الله تعالى والتأدب فهو كقوله عليه السلام لأهل المقابر { } وأما بالتفسير الرابع فغير مشهور وكونه لغوا هو اختيار وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ا هـ . سعيد
وأراد بالتفسيرين الأولين تفسيرنا وتفسير وبالثالث ما عن الشافعي الشعبي لغو اليمين أن يحلف على معصية فينزل لاغيا بيمينه وبالرابع قول ومسروق أن يحرم على نفسه ما أحل الله من قول أو عمل . سعيد
والحاصل أن الأولى الجزم كما فعل المصنف لقطعية الدليل كالجزم في نظائره مما في معناه اختلاف . .
[ ص: 302 ]