الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                        البحر الرائق شرح كنز الدقائق

                                                                                        ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        [ ص: 144 ] ( قوله ولو زوج طفله غير كفء أو بغبن فاحش صح ولم يجز ذلك لغير الأب والجد ) يعني لو زوج الأب الصاحي ولده الصغير أمة أو بنته الصغيرة عبدا أو زوجه وزاد على مهر المثل زيادة فاحشة أو زوجها ونقص عن مهر مثلها نقصانا فاحشا فهو صحيح من الأب والجد دون غيرهما عند أبي حنيفة ولم يصح العقد عندهما على الأصح ; لأن الولاية مقيدة بشرط النظر فعند فواته يبطل العقد وله : أن الحكم يدار على دليل النظر وهو قرب القرابة وفي النكاح مقاصد تربو على المهر والكفاءة قيد بالغبن الفاحش ; لأن الغبن اليسير في المهر معفو اتفاقا كذا في غاية البيان وقيد بالنكاح ; لأن في التصرفات المالية كالبيع والشراء والإجارة والاستئجار والصلح في دعوى المال لا يملك الأب والجد بغبن فاحش بالإجماع ; لأن المقصود المال

                                                                                        وقد حصل النقصان فيه بلا جابر فلم يجز وفي النكاح وجد الجابر وهو ما قلنا من المقاصد ، وأطلق في الأب والجد وقيده الشارحون وغيرهم بأن لا يكون معروفا بسوء الاختيار حتى لو كان معروفا بذلك مجانة وفسقا فالعقد باطل على الصحيح قال في فتح القدير ومن زوج ابنته الصغيرة القابلة للتخلق بالخير والشر ممن يعلم أنه شرير فاسق فهو ظاهر سوء اختياره ولأن ترك النظر هنا مقطوع به فلا يعارضه ظهور إرادة مصلحة تفوت [ ص: 145 ] ذلك نظرا إلى شفقة الأبوة ا هـ .

                                                                                        فظاهر كلامهم أن الأب إذا كان معروفا بسوء الاختيار لم يصح عقده بأقل من مهر المثل ولا بأكثر في الصغير بغبن فاحش ولا من غير الكفء فيهما سواء كان عدم الكفاءة بسبب الفسق أو لا حتى لو زوج بنته من فقير أو محترف حرفة دنيئة ولم يكن كفؤا فالعقد باطل فقصر المحقق ابن الهمام كلامهم على الفاسد مما لا ينبغي ، وذكر أصحاب الفتاوى أن الأب إذا زوج بنته الصغيرة ممن ينكر أنه يشرب المسكر فإذا هو مدمن له وقالت بعدما كبرت لا أرضى بالنكاح إن لم يكن يعرفه الأب بشربه وكان غلبة أهل بيته صالحين فالنكاح باطل اتفاقا ; لأنه إنما زوج على ظن أنه كفء ا هـ .

                                                                                        وهو يفيد أن الأب لو عرفه بشربه فالنكاح نافذ ولا شك أن هذا منه سوء اختيار بيقين لكن لم يلزم من تحققه كون الأب معروفا للناس به فقد يتصف به في نفس الأمر ولا يشتهر به فلا منافاة بين ما ذكروه كما لا يخفى ، وفرق بين علمه وعدمه في الذخيرة بأنه إذا كان عالما بأنه ليس بكفء علم أنه تأمل غاية التأمل وعرف هذا العقد مصلحة في حقها أما هاهنا ظنه كفؤا فالظاهر أنه لا يتأمل . ا هـ .

                                                                                        وقد وقع في أكثر الفتاوى في هذه المسألة أن النكاح باطل فظاهره أنه لم ينعقد وفي الظهيرية يفرق بينهما ولم يقل إنه باطل وهو الحق ولذا قال في الذخيرة في قولهم فالنكاح باطل أي يبطل . ثم اعلم ، أنه لا خصوصية لما إذا علمه فاسقا ، وإنما المراد أنه إذا زوجه بناء على أنه كفء فإذا هو ليس بكفء فإنه باطل ولذا قال في القنية زوج بنته الصغيرة من رجل ظنه حر الأصل وكان معتقا فهو باطل بالاتفاق وقيد بتزويجه طفله ; لأنه لو زوج أمة طفله بغبن فاحش فإنه لا يجوز اتفاقا ; لأنه إضاعة مالهما ; لأن المهر ملكهما ولا مقصود آخر باطن يصرف النظر إليه كما في فتح القدير والمراد بعدم الجواز في قوله لم يجز ذلك لغيرهما عدم الصحة وعليه ابتني الفرع المعروف ، ولو زوج العم الصغيرة حرة الجد من معتق الجد فكبرت وأجازت لا يصح ; لأنه لم يكن العقد موقوفا إذ لا مجيز له فإن العم ونحوه لا يصح منهم التزويج لغير الكفء ولذا ذكر في الخانية وغيرها أن غير الأب والجد إذا زوج الصغيرة فالأحوط أن يزوجها مرتين مرة بمهر مسمى ومرة بغير التسمية ; لأنه لو كان في التسمية نقصان فاحش ولم يصح النكاح الأول يصح الثاني ا هـ .

                                                                                        ولا فرق بين الصغير والصغيرة [ ص: 146 ] في هذا المعنى فالتخصيص بالصغيرة مما لا ينبغي وليس للتزويج من غير كفء حيلة كما لا يخفى وقيد بتزويج الأب أي بنفسه ; لأنه لا يجوز لوكيل الأب أن يزوج بنته الصغيرة بأقل من مهر مثلها كذا في القنية وينبغي استثناء القليل الذي يتساهل فيه كما لا يخفى وقيدنا الأب بكونه صاحيا ; لأن السكران إذا قصر في مهر ابنته بما لا يتغابن الناس فيه فإنه لا يجوز إجماعا والصاحي : يجوز ; لأن الظاهر من حال السكران أنه لا يتأمل إذ ليس له رأي كامل فيبقى النقصان ضررا محضا والظاهر من حال الصاحي أنه يتأمل كذا في الذخيرة ، وكذا السكران إذا زوج من غير الكفء كما في الخانية وبه علم أن المراد بالأب من ليس بسكران ولا عرف بسوء الاختيار وأطلق في غير الكفء فشمل ما إذا زوجها من مملوك نفسه فعندهما لم يصح كما في الذخيرة وقيد بالطفل ; لأن الأب لو زوج الكبيرة من مملوكه برضاها فهو جائز اتفاقا ولا خصوصية للأب بل كل ولي كذلك إن لم يكن لها غيره أقرب منه لم يرض به قبل العقد والطفل الصبي ويقع على الذكر والأنثى والجماعة يقال طفلة وأطفال ا هـ .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( قوله يعني لو زوج الأب الصاحي ) قال الرملي لو زاد على هذا الذي لم يعرف بسوء الاختيار لكان أولى كما سيظهر مما يأتي

                                                                                        ( قوله ولم يصح العقد عندهما على الأصح ; لأن الولاية إلخ ) قال في النهر هذا موافق لما قدمناه عن المحيط وغيره من اعتبار الكفاءة في جانبها مخالف لما مر عن الخبازية من عدم اعتبارها عند الكل قال في الحواشي السعدية ولعلهما يعتبران الكفاءة بالحرية من جانبها دون غيرها ; لأن رقية الزوجة تستتبع رقية أولادها ا هـ .

                                                                                        وهذا يرشد إليه تصويرهم المسألة بما إذا زوجه أمة إلا أن الظاهر اعتبارها في جانبها عندهما مطلقا على ما مر .

                                                                                        ( قوله ; لأن الغبن اليسير في المهر معفو ) الغبن اليسير هو ما يتغابن الناس فيه أي ما يغبن فيه بعضهم بعضا بأن يتحملوه ولا يعده كل أحد غبنا بخلاف الفاحش وهو ما لا يتغابن الناس فيه قال في الجوهرة والذي يتغابن فيه في النكاح ما دون نصف المهر كذا قال شيخنا موفق الدين ، وقيل ما دون العشر ا هـ .

                                                                                        فعلى الثاني نقصان تسعة من المائة يسير ونقصان عشرة منها فاحش وعلى الأول نقصان تسعة وأربعين من المائة يسير ونقصان خمسين فاحش والأقرب القول الثاني كما لا يخفى ا هـ . تأمل .

                                                                                        ( قوله وقيده الشارحون وغيرهم بأن لا يكون إلخ ) قدم في شرح قوله ولا لكافر على مسلم قيد بالكفر ; لأن الفسق لا يسلب الأهلية عندنا على المشهور وهو المذكور في المنظومة ا هـ . كذا قاله الرملي .

                                                                                        قلت : ولا يخالف ما هنا كما هو ظاهر ; لأن ذاك في بقاء الأهلية مع شرطه وهو تزويجه من كفء بمهر المثل وما هنا في نفي الجواز عند فقد الشرط المذكور ومقتضاه أنه لو كان معروفا بسوء الاختيار فزوج من كفء بمهر المثل يصح إذ لم يظهر منه ما ينافي الشفقة . ( قوله حتى لو كان معروفا بذلك مجانة وفسقا ) في المغرب الماجن الذي لا يبالي ما يصنع وما قيل له ، ومصدره المجون والمجانة اسم منه والفعل من باب طلب ا هـ .

                                                                                        وفي شرح المجمع لابن ملك حتى لو عرف من الأب سوء الاختيار لسفهه أو لطمعه [ ص: 145 ] لا يجوز عقده اتفاقا .

                                                                                        ( قوله فقصر المحقق ابن الهمام إلخ ) أقر ما اقتضاه كلام المحقق من أنه يظهر سوء اختياره بمجرد تزويجه ابنته للفاسق مع أن ظاهر قولهم أن لا يكون معروفا بسوء الاختيار يخالفه فإنه لا يلزم من ظهور سوء اختياره بذلك كونه مشهورا بسوء الاختيار كما سيصرح به قريبا في دفع المنافاة ولعله قصد بما سيأتي التعريض لما في الفتح أيضا وعن هذا قال في النهر التحقيق أن الأب تارة يعرف بسوء الاختيار فلا يصح عقده مطلقا أو لا فيصح مطلقا ولو من فاسق بشرط أن يكون صاحيا إذ لو كان فعله ذلك آية سوء اختياره لزم إحالة المسألة فتدبره ا هـ .

                                                                                        فقوله " إذ لو كان " رد على ما اقتضاه كلام المحقق بأنه لو كان كذلك لزم عدم تصور صحة تزويج الأب والجد بغير الكفء ويؤيده ما يفيده كلام الفتاوى مما سيذكره المؤلف قريبا .

                                                                                        ( قوله : وقد وقع في أكثر الفتاوى في هذه المسألة ) أي التي ذكرها أصحاب الفتاوى . ( قوله إن النكاح باطل ) لا يخفى أن قولهم النكاح باطل إنما هو بعد ردها وذلك لا يفيد بطلانه من أصله ، نعم يرد ما قاله على عبارة القنية الآتية حيث لم يذكر فيها رد البنت أما على ما مر فلا ، وقد رأيته كذلك في الخانية والذخيرة والولوالجية والتجنيس والبزازية فكلهم ذكروا البطلان بعد الرد وهل يتوقف على القضاء ؟ لم أره تأمل . ( قوله ثم اعلم أنه لا خصوصية لما إذا علمه فاسقا ) قال الرملي .

                                                                                        والحاصل مما تقدم : أنه إن لم يعلم بعدم كفاءته ثم علم فهو باطل أي سيبطل وإن علم بها ينظر ، إن علم سوء تدبيره فكذلك وإلا فهو صحيح نافذ وعليه يحمل ما في المتون هذا ، وقد قدم في أول الباب عن الولوالجي امرأة زوجت نفسها من رجل ولم تعلم أنه عبد أو حر إلخ وبه يعلم أن الحكم مختلف بين ما إذا زوج الكبيرة برضاها على ظن الكفاءة فلا خيار عند ظهور عدمها وفيما إذا زوج الصغيرة على ذلك الظن فظهر خلافه فإنه باطل أي سيبطل ، وقد توهم بعض خلاف ذلك . ا هـ .

                                                                                        وكان مراده بالبعض العلامة المقدسي فإنه قال في الرمز بعد ما ذكر المسألة المنقولة عن الفتاوى قلت : وهو يخالف ما نقلنا آنفا أنه لو زوجت من غير شرطهم الكفاءة فظهر غير كفء لا اعتراض لهم ، فأما أن يخص هذا منه أو يدخل هذا فيه . ( قوله والمراد بعدم الجواز إلخ ) فيه رد على صدر الشريعة حيث قال في شرحه : وإن فعل غيرهما فلهما أن يفسخا بعد البلوغ فإنه يقتضي الصحة وهو وهم كما نبه عليه ابن الكمال وغيره ، وكذا رده المحقق التفتازاني في التلويح في بحث العوارض ، وذكر أنه لا يوجد له رواية أصلا [ ص: 146 ]

                                                                                        ( قوله ; لأنه لا يجوز لوكيل الأب أن يزوج بنته إلخ ) قال في الرمز ينبغي أن يقيد بما إذا لم يعلم الأب بالزوج كأن يوكله في تحصيل زوج لبنته الصغيرة أما لو كان يعرفه خصوصا بعد خطبته ، وإنما وكل في مجرد العقد فينبغي أن يصح على قول أبي حنيفة رحمه الله . ا هـ .

                                                                                        والظاهر أن مراده إذا زوج الوكيل لغير كفء لا بأقل من مهر المثل الذي الكلام فيه وفي هذا قال في النهر ينبغي أن يكون معناه ما لو وكله أن يزوج طفله أما لو عين له المقدار الذي هو غبن فاحش فيصح ( قوله وينبغي استثناء القليل إلخ ) قال في الرمز يفيد ذلك تقييدهم بالفاحش ففيه استغناء عن هذا الاستثناء .




                                                                                        الخدمات العلمية