الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                        البحر الرائق شرح كنز الدقائق

                                                                                        ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله : أو حلق ربع رأسه أو لحيته ، وإلا تصدق كالحالق أو رقبته أو إبطيه أو أحدهما أو محجمه ) معطوف على طيب ، وقوله أو لحيته بالجر معطوف على رأسه أي حلق ربع لحيته ، وقوله : وإلا أي ، وإن كان حلق أقل من ربع الرأس أو أقل من ربع اللحية يلزمه صدقة كما يلزم المحرم إذا حلق رأس غيره ، وقوله أو رقبته ، وما عطف عليه معطوف على الربع أي يجب الدم بحلق المحرم رقبته كلها أو بحلق إبطيه أو أحدهما أو بحلق محاجمه والمحجمة هنا بالفتح موضع المحجمة من العنق والمحجمة بالكسر قارورة الحجام ، وكذا المحجم بطرح الهاء ، وقولهم يجب غسل المحاجم يعني مواضع الحجامة من البدن كذا في المغرب ، وإنما كان حلق ربع الرأس أو ربع اللحية موجبا للدم لتكامل الجناية بتكامل الارتفاق ; لأن بعض الناس يعتاده بخلاف تطييب ربع العضو فإن الجناية فيه قاصرة ، وكذا تغطية ربع الرأس على قول من اعتبر الأكثر ، وإذا حلق أقل من الربع فيهما تقاصرت الجناية فوجبت الصدقة واعتبار الربع في الحلق رواية الجامع الصغير اعتمدها المشايخ ، وأما رواية الأصل فاعتبار الثلث ، وفي المحيط ، وعند أبي حنيفة يجب الدم بحلق الأكثر . ا هـ .

                                                                                        وأراد المصنف بالحلق الإزالة ، سواء كان بالموسى أو بغيره ، وسواء كان مختارا أو لا فلو أزاله بالنورة أو نتف لحيته أو احترق شعره بخبزة أو مسه بيده فسقط فهو كالحلق كما في المحيط وغيره بخلاف ما إذا تناثر شعره بالمرض أو النار فلا شيء عليه ; لأنه ليس للزينة ، وإنما هو شين كذا في المحيط أيضا ، وأطلق في وجوب الصدقة فيما إذا حلق أقل من ربع الرأس أو اللحية فشمل ما إذا بقي شيء بعد الحلق أو لا فكذا لو كان أصلع على ناصيته أقل من ربع الرأس فإنما فيه صدقة وكذا لو حلق كل رأسه ، وما عليه أقل من ربع شعره كما أطلق وجوب الدم بحلق [ ص: 10 ] الربع فلذا لو كان على رأسه قدر ربع شعره لو كان شعر رأسه كاملا ففيه دم ، قال في فتح القدير : وعلى هذا يجيء مثله فيمن بلغت لحيته الغاية في الخفة ، وعلم من إيجابه الدم بحلق أحد الإبطين أو الإبطين أن جناية الحلق واحدة ، وإن تعددت في البدن فلذا لو حلق رأسه ولحيته ، وإبطيه بل كل بدنه في مجلس واحد فدم واحد بشرطين . الأول : أن لا يكون كفر للأول فلو أراق دما لحلق رأسه ثم حلق لحيته لزمه آخر . الثاني أن يتحد المجلس فإذا اختلف المجلس فلكل مجلس موجب جنايته إن تعدد المحل كما ذكرنا ، وإن اتحد فدم واحد ، وإن اختلف المجلس كما إذا حلق الرأس في مجالس وخالف محمد فيما إذا تعدد المحل فألحقه بما إذا اتحد ، وظاهر قول المصنف ، وإلا تصدق أن في إزالته لشعر الرأس أو اللحية إذا كان أقل من الربع نصف صاع ، ولو كان شعرة واحدة فإنهم قالوا كل صدقة في الإحرام غير مقدرة فهي نصف صاع من بر إلا ما يجب بقتل القملة والجرادة كما أن واجب الدم يتأدى بالشاة في جميع المواضع إلا في موضعين من طاف للزيارة جنبا أو حائضا أو نفساء ، ومن جامع بعد الوقوف بعرفة قبل الطواف فإنه بدنة كذا في الهداية وغيرها لكن ذكر قاضي خان في فتاويه أنه إن نتف من رأسه أو من أنفه أو لحيته شعرات فلكل شعرة كف من طعام ، وفي خزانة الأكمل في خصلة نصف صاع .

                                                                                        فظهر بهذا أن في كلام المصنف اشتباها ; لأنه لم يبين الصدقة ، ولم يفصلها ، وأطلق في لزوم الصدقة على الحالق فشمل ما إذا كان محرما سواء كان المحلوق محرما أو لا أو حلالا والمحلوق رأسه محرم ، ولا يرد عليه ما إذا كانا حلالين ; لأنه ليس بجناية منهما ، وكلامه فيما يكون جناية ، وإنما لزمه الصدقة فقط لقصور جنايته ; لأنه ينتفع بإزالة شعر غيره انتفاعا قليلا بخلاف المحلوق ، وإنما صار جناية من الحالق الحلال باعتبار أن شعر المحرم استحق الأمن ، وقد أزاله [ ص: 11 ] عنه فكان جانيا ، وإذا كان المحلوق رأسه مكرها وجب الدم عليه ، ولا رجوع له على الحالق عندنا كذا في المحيط . وظاهر كلامه أنه لا بد من حلق جميع الرقبة والإبط والمحجمة في لزوم الدم بكل منهم فلو بقي من الرقبة أو الإبط شيء لا يلزمه ، وإن كان قليلا ولهذا قال الإسبيجابي ، ولو حلق من أحد الإبطين أكثره وجبت الصدقة فعلى هذا فما صرح به في المحيط من أن الأكثر من الرقبة كالكل في لزوم الدم ، وأن الأصل أن كل عضو له نظير في البدن لا يقوم أكثره مقام كله ، وكل عضو لا نظير له في البدن كالرقبة يقوم أكثره مقام كله .

                                                                                        وما في فتاوى قاضي خان من أن في الإبط إذا كان كثير الشعر يعتبر فيه الربع لوجوب الدم ، وإلا فالأكثر ضعيف ; لأنه لم يقيد أحد حلق ربع غير اللحية والرأس فليس فيه ارتفاق كامل ولهذا قال الشارح ثم الربع من هذه الأعضاء لا يعتبر بالكل ; لأن العادة لم تجر في هذه الأعضاء بالاقتصار على البعض فلا يكون حلق البعض ارتفاقا كاملا حتى لو حلق أكثر الإبط لا يجب عليه إلا صدقة بخلاف الرأس واللحية . ا هـ .

                                                                                        فالمذهب ما في الكتاب من اعتبار الربع في الرأس واللحية والكل في غيرهما في لزوم الدم ، وأراد بالرقبة ، وما عطف ما عدا الرأس واللحية كالصدر والساق والعانة كالرقبة لكن في فتاوى قاضي خان ، وفي حلق العانة دم إن كان الشعر كثيرا . ا هـ .

                                                                                        فشرط كثرة الشعر فصار الحاصل أن فيما عدا الرأس واللحية إن حلق عضوا كاملا فعليه دم ، وإن كان أقل فعليه صدقة ، وفي المبسوط ، ومتى حلق عضوا مقصودا بالحلق فعليه دم ، وإن حلق ما ليس بمقصود فصدقة ثم قال : ومما ليس بمقصود حلق الصدر والساق ورجحه في فتح القدير ودفع ما في الهداية من أنه مقصود بطريق التنور بأن القصد إلى حلقهما إنما هو في ضمن غيرهما إذ ليست العادة تنوير الساق وحده بل تنوير المجموع من الصلب إلى القدم فكان بعض المقصود بالحلق فالحق أن يجب في كل منهما الصدقة . ا هـ .

                                                                                        فعلى هذا فالتقييد بالرقبة ، وما عطف عليه للاحتراز عن الصدر والساق بما ليس بمقصود ، وأطلق في المحجمة ، وهو مقيد بما إذا كان الحلق لهذا الموضع وسيلة إلى الحجامة فلو حلقها ، ولم يحتجم لزمه صدقة ; لأنه غير مقصود كما في فتح القدير ، وفي فتح القدير .

                                                                                        واعلم أنه يجمع المتفرق في الحلق كما في الطيب ، وفي الهداية ذكر في الإبطين الحلق هنا ، وفي الأصل النتف ، وهو السنة ، وفي النهاية ، وأما العانة فالسنة فيها الحلق لما جاء في الحديث { عشر من السنة منها الاستحداد } وتفسيره : حلق العانة بالحديد .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( قوله : وأراد المصنف بالحلق الإزالة إلخ ) يشمل التقصير ففي اللباب أن حكمه حكم الحلق في وجوب الدم به والصدقة فلو قصر كل الرأس أو [ ص: 10 ] ربعه فعليه دم ، وفي أقل من الربع صدقة ، ولو قصرت المرأة قدر أنملة من ربع شعرها فعليها دم قال شارحه أي على ما صرح به في الكافي والكرماني ، وهو الصواب قياسا على التحلل ووقع في الكفاية شرح الهداية أن التقصير لا يوجب الدم . ا هـ .

                                                                                        ( قوله : وعلى هذا يجيء إلخ ) أي إن كان قدر ربعها كاملة ففيه دم ، وإلا فصدقة كما في اللباب ( قوله : الثاني أن يتحد المجلس ) هذا مستغنى عنه ; لأن فرض المسألة فيه فلو أسقط أولا من كلامه : قوله في مجلس واحد لاستقام ( قوله : وإن اختلف المجلس ) أن وصلية ، ولو حذف هذه الجملة لكان أقرب للفهم ; لأن قوله ، وإن اتحد تصريح بمفهوم قوله إن تعدد المحل ، وهو مفروض فيما إذا اختلف المجلس وحكم ما إذا اتحد المجلس مفهوم بالأولى ( قوله : كما إذا حلق الرأس في مجالس ) قال في اللباب فعليه دم واحد اتفاقا ، وكذا نقل المؤلف الاتفاق فيما سيأتي عند الكلام على قص الأظفار قال في شرح اللباب : لأنها أجناس متفقة ، ولو كانت في مجالس مختلفة كذا في الفتح ، ومنسك الفارسي وغيرهما ، وإليه أشار في الكافي وشرح الكنز ، وفي البحر الزاخر فدم واحد بالإجماع ويخالفه بظاهره ما ذكره الخبازي في حاشيته على الهداية إذا حلق ربع الرأس ثم حلق ثلاثة أرباعه في أزمان متفرقة تجب عليه أربعة دماء ; لأن حلق كل ربع جناية موجبة للدم فإذا اختلف أزمان وجودها نزل ذلك بمنزلة اختلاف المكان في تلاوة آية السجدة فلا يتداخل . ا هـ .

                                                                                        والظاهر أن مراده بالأزمان الأيام لا المجالس المتعددة في يوم واحد . ا هـ .

                                                                                        ( قوله : وخالف محمد فيما إذا تعدد المحل ) كذا في بعض النسخ ، وفي بعضها المجلس بدل المحل وكلاهما صحيح ; لأن خلافه فيما إذا تعدد المحل والمجلس ( قوله : فشمل ما إذا كان محرما إلخ ) قال في النهر إن في كلامه اشتباها أيضا وذلك أن المحلوق رأسه لو كان حلالا ، وكان الحالق محرما تصدق بما شاء ، وفي غيره نصف صاع . ا هـ .

                                                                                        وسينبه عليه المؤلف قبيل قوله أو قص أظفار يديه ( قوله : أو حلالا ) أي أو كان الحالق حلالا والمحلوق رأسه محرم فتلزمه صدقة ، ومشى في اللباب على أنه لا شيء على الحالق في هذه الصورة ثم قال : وقيل عليه صدقة ونقل شارحه ما مشى عليه في اللباب عن البدائع والكرماني والعناية والحاوي ونقل ما عبر عنه بقيل عن الزيلعي وابن الهمام والشمني ثم قال : ووجهه غير ظاهر إذ الحلال غير داخل في موجبات محظورات الإحرام ، وهل يحرم عليه أو يباح فعله هذا أو يكره الظاهر الآخر وذكر وجهه وذكر أيضا وجه الفرق بين ما إذا حلق المحرم رأس غيره حيث تجب الجناية وبين ما إذا ألبس المحرم محرما لباسا مخيطا حيث لا يجب عليه شيء فراجعه .

                                                                                        ( قوله : لأنه ينتفع إلخ ) قال في الفتح إذ لا شك في تأذي الإنسان بتفث غيره يجده من رأى إنسانا ثائر الرأس شعثها وسخ الثوب تفل الرائحة ، وما سن غسل الجمعة إلا لذلك ( قوله : باعتبار أن شعر المحرم استحق إلا من إلخ ) أي بخلاف ما إذا ألبس المحرم محرما مخيطا أو طيبه فإنه لا شيء عليه بالإجماع كما قدمه المؤلف عن الظهيرية ، وكذا لو غطى رأسه ووجهه كما في اللباب فلا شيء على الفاعل ; لأنه لم يزل الأمن عن مستحقه لكن يرد عليه ما في عبارة الظهيرية السابقة من قوله ، وكذا لو قتل قملة على غيره فإنها مستحقة إلا من تأمل ، وأما لو قلم أظافير [ ص: 11 ] غيره فإن حكمه حكم الحلق قال في شرح اللباب ، وفي المحيط وقاضي خان وجوامع الفقه إذا قص المحرم أظافير غيره فحكمه كحكم الحلق ، وعن محمد رواية أنه لا شيء عليه ، وفي البدائع ، وإن قلم المحرم أظافير حلال أو محرم أو قلم الحلال أظافير محرم فحكمه كحكم الحلق . ا هـ .

                                                                                        ( قوله : فالحق أن يجب ) كذا في نسخة ، وفي عامة النسخ والحلق ، وهو تحريف والصواب الأولى ( قوله : وأطلق في المحجمة إلى قوله كما في فتح القدير ) قال في النهر لم أجده في نسختي منه . ا هـ .

                                                                                        وكأنه نظر في غير محله أو سقط من نسخته ونصه قوله : لأنه لا يتوصل إلى المقصود إلا به يفيد أنه إذا لم تترتب الحجامة على موضع المحاجم لا يجب الدم ; لأنه أفاد أن كونه مقصودا إنما هو للتوصل به إلى الحجامة فإذا لم تعقبه الحجامة لم يقع وسيلة فلم يكن مقصودا فلا تجب إلا الصدقة ، وعبارة شرح الكنز واضحة في ذلك حيث قال في دليلهما ولأنه قليل فلا يوجب الدم كما إذا حلقه بغير الحجامة ، وفي دليله أن حلقه لمن يحتجم مقصود ، وهو المعتبر بخلاف الحلق لغيرها . ا هـ بحروفه .

                                                                                        ( قوله : وفي النهاية وأما العانة إلخ ) اختلف في العانة التي يسن حلقها فالمشهور الذي عليه الجمهور أنه ما حول ذكر الرجل ، وفرج المرأة من الشعر ، وقيل يسن حلق جميع ما على القبل والدبر وحولهما ويحصل أصل السنة بأي وجه كان من الحلق والقص والنتف واستعمال النورة إذ المقصود حصول النظافة إلا أن الأحسن في هذه السنة الحلق بالموسى ; لأنه أنظف كذا في حاشية نوح أفندي .




                                                                                        الخدمات العلمية