الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                        البحر الرائق شرح كنز الدقائق

                                                                                        ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله ولا تمتع ولا قران لمكي ومن حولها ) لقوله تعالى { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } بناء على عود اسم الإشارة إلى التمتع لا إلى الهدي بقرينة وصلها باللام وهي تستعمل فيما لنا أن نفعله بخلاف الهدي فإنه علينا فلو كان مرادا لقيل ذلك على من لم يكن ، ولكونها اسم إشارة للبعيد والتمتع أبعد من الهدي ثم ظاهر الكتب متونا وشروحا وفتاوى أنه لا يصح منهم تمتع ولا قران لقولهم وإذا عاد المتمتع إلى أهله ولم [ ص: 393 ] يكن ساق الهدي بطل تمتعه .

                                                                                        قال في غاية البيان ولهذا قلنا لم يصح تمتع المكي لوجود الإلمام الصحيح ومقتضاه أنه لو أحرم بعمرة في أشهر الحج ، وحل منها ثم أحرم بحج فإنه لا يلزمه دم لكن صرح في التحفة بأنه يصح تمتعهم وقرانهم فإنه نقل في غاية البيان عنها أنهم لو تمتعوا جاز ، وأساءوا ويجب عليهم دم الجبر ، وهكذا ذكر الإسبيجابي ثم قال ولا يباح لهم الأكل من ذلك الدم ولا يجزئهم الصوم إن كانوا معسرين فتعين أن يكون المراد بالنفي في قولهم لا تمتع ولا قران لمكي نفي الحل لا نفي الصحة ، ولذا وجب دم جبر لو فعلوا ، وهو فرع الصحة واشتراطهم عدم الإلمام فيما بينهما إنما هو للتمتع المنتهض سببا للثواب المترتب عليه وجوب دم الشكر فالحاصل أن المكي إذا أحرم بعمرة في أشهر الحج فإن كان من نيته الحج من عامه فإنه يكون آثما ; لأنه عين التمتع المنهي عنه لهم فإن حج من عامه لزمه دم جناية لا دم شكر ، وإن لم يكن من نيته الحج من عامه ولم يحج فإنه لا يكون آثما بالاعتمار في أشهر الحج ; لأنهم وغيرهم سواء في رخصة الاعتمار في أشهر الحج ، وما في البدائع من أن الاعتمار في أشهر الحج للمكي معصية محمول على ما إذا حج من عامه ، وإذا قرن فإنه يكون آثما أيضا ويلزمه دم جناية وفي الهداية بخلاف المكي إذا خرج إلى الكوفة وقرن حيث تصح ; لأن عمرته وحجته ميقاتيتان فصار بمنزلة الآفاقي .

                                                                                        قال الشارحون قيد بالقران لأنه لو تمتع فإنه لا يصح ويلزمه دم جناية لوجود الإلمام الصحيح [ ص: 394 ] بينهما فقد فرقوا بين التمتع والقران فشرطوا في التمتع عدم الإلمام دون القران ، ومقتضى الدليل أنه لا فرق بينهما في هذا الشرط ، وأن المكي يأثم إذا أحرم من الميقات بهما أو بالعمرة في أشهر الحج ثم حج من عامه ; لأن التمتع المذكور في الآية يعمهما كما قدمناه وإيجابهم دم الجناية على المكي إذا خرج إلى الميقات وتمتع مقتض لوجوب الدم على الآفاقي إذا تمتع ، وقد ألم بينهما إلماما صحيحا ولم يصرحوا به ، وإنما قالوا بطل تمتعه والمراد بمن حولها من كان داخل المواقيت فإنهم بمنزلة أهل مكة وإن كان بينهم وبين مكة مسيرة سفر ; لأنهم في حكم حاضري المسجد الحرام ، وفي النهاية وأما القران من المكي فيكره ويلزمه الرفض والعمرة له في أشهر الحج لا تكره ولكن لا يدرك فضيلة التمتع لأن الإلمام قطع تمتعه ا هـ .

                                                                                        ولم يبين المرفوض وبينه في المحيط فقال مكي أحرم بعمرة وحجة رفض العمرة ومضى في الحجة وعليه عمرة ودم فإن مضى في العمرة لزمه دم لجمعه بينهما فإنه لا يجوز له الجمع فإذا جمع فقد احتمل وزرا فارتكب محظورا فلزم دم كفارة ثم لا بد من رفض أحدهما خروجا عن المعصية فرفض العمرة أولى فإن طاف لعمرته ثلاثة أشواط ثم أحرم بالحج رفض الحج عند أبي حنيفة ; لأنه امتناع وهو أسهل من الإبطال وعندهما برفض العمرة ولو طاف لها أربعة أشواط ثم أحرم بالحج أتمهما وعليه دم لارتكابه المنهي عنه ا هـ .

                                                                                        وفيها أيضا وذكر الإمام المحبوبي أن هذا المكي الذي خرج إلى الكوفة وقرن إنما يبيح قرانه إذا خرج من الميقات قبل دخول أشهر الحج ، فأما إذا دخل أشهر الحج وهو بمكة ثم قدم الكوفة ثم عاد وأحرم بها من الميقات لم يكن قارنا ; لأنه لما دخل أشهر الحج وهو بمكة صار ممنوعا من القران شرعا فلا يتغير ذلك بخروجه من الميقات وتعقبه في فتح القدير بأن الظاهر الإطلاق ; لأن كل من حل بمكان صار من أهله مطلقا .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( قوله ثم ظاهر الكتب إلخ ) قال في النهر وقد صرح أصحاب المذهب بأن الآفاقي المتمتع لو عاد إلى بلده بطل تمتعه اتفاقا بين الإمام وصاحبيه ، وأن شرط التمتع مطلقا عدم الإلمام الصحيح ولا وجود للمشروط بدون شرطه ولا شك أنهم قالوا بوجود الفاسد مع الإثم ، ولم يقولوا بوجود الباطل شرعا مع ارتكاب النهي ومقتضى كلام أئمة المذهب أولى بالاعتبار من بعض المشايخ كذا في الفتح ملخصا ، واختار منعها أي العمرة أيضا وإن لم يحج لكن لا يخفى أن ما استدل به من كلام أئمة المذهب لا يقتضي عدم تحققها منه بل عدم [ ص: 393 ] كونه متمتعا ، وهو الموافق لما سيأتي في إفاضة الإحرام إلى الإحرام أن المكي لو أدخل إحرام الحج على العمرة بعدما طاف لها أو لم يطف ولم يرفض شيئا أجزأه ; لأنه أتى بأفعالها كما لزمته غير أنه منهي عنه ، وبهذا عرف أنه يتصور الجمع بين العمرة والحج في حق المكي لكن لا على وجه التمتع والقران وهذا هو المترجم له في الباب الآتي ا هـ .

                                                                                        وما ذكره المؤلف هنا من أن ظاهر الكتب عدم الصحة ، وكذا ما ذكره الكمال من أن مقتضى كلامهم ذلك ، وأنه أولى مما ذكره بعض المشايخ يعني به صاحب التحفة كما يأتي رده في الشرنبلالية بما اتفقوا عليه متونا وشروحا في باب إضافة الإحرام إلى الإحرام من أن المكي لو أدخل إحرام الحج إلى آخر ما مر ، وذكر أنه لا خلاف في صحة قران المكي وتمتعه ، وأن الكمال ناقض نفسه فيما يأتي وأطال في ذلك فراجعه متأملا ورده أيضا في شرح اللباب بما حاصله أن مراد أئمة المذهب بقولهم بطل تمتعه أي المسنون فلا ينافي ما ذكره بعض المشايخ من الصحة ، وسيذكر المؤلف هذا التوفيق قريبا .

                                                                                        ( قوله قال في غاية البيان ولهذا قلنا إلخ ) لم يبين وجه عدم صحة القران وبينه الزيلعي بقوله ولأن ميقات أهل مكة في الحج الحرم وفي العمرة الحل فلا يتصور الجمع بينهما فلا يشرع في حقهم القران ( قوله لوجود الإلمام الصحيح ) هذا خاص فيمن لم يسق الهدي وحلق أما إذا ساق الهدي أو لم يسق ولم يحلق للعمرة لم يكن ملما بأهله إلماما صحيحا فدعوى صاحب البدائع عدم تصور وجود تمتعه خاص بصورة ، ويتصور بصورتين كما ذكرنا نبه عليه في الشرنبلالية وكان مبنى ما ذكره تفسير الإلمام الصحيح بما مر عن العناية ، وليس كذلك بل مبنى المسألة تفسيره بما قدمناه عن المعراج عن المحيط بأن يرجع إلى أهله عن العمرة ولا يكون الرجوع عن العمرة مستحقا عليه ، ولهذا قال وعن هذا قلنا لا تمتع لأهل مكة كما مر ومثله في النهاية وإذا كان كذلك فالإلمام الصحيح موجود هنا لما قدمناه عن العناية أن المراد بالعود هو ما يكون عن الوطن إلى الحرم أو إلى مكة وليس هاهنا بموجود لكونه في الحرم أو في مكة وعليه فعدم التصور في الثلاث مسلم تأمل .

                                                                                        ( قوله وما في البدائع إلخ ) اعلم أن عدم جواز العمرة للمكي قال في الفتح إنه فاش بين حنفية العصر من أهل مكة ونازعهم في ذلك بعض الآفاقيين من الحنفية من قريب ، ومعتمد أهل مكة ما وقع في البدائع والذي ذكره غير واحد خلافه ا هـ . ملخصا .

                                                                                        فقد مال صاحب الفتح إلى الجواز لكن ذكر بعدما حقق المقام أنه ظهر له بعد نحو ثلاثين سنة أن الوجه منع العمرة للمكي في أشهر الحج سواء حج من عامه ذلك أو لا ثم بين وجهه ورده في النهر كما قدمناه آنفا ، وكذا رده منلا علي في شرح اللباب ونقل التصريح بالجواز عن شرح الطحاوي ، وأطال في ذلك فراجعه وميل المؤلف إلى ذلك أيضا فإنه صرح بأنه لا يكون آثما ثم أول عبارة البدائع والمسألة طويلة الذيل ، وقد أفردت بالتآليف وكثرت فيها الرسائل والتصانيف كما ذكره في حاشية المدني وذكر حاصل الأقوال في ذلك فراجعها هذا وقد ذكر في اللباب أن المتمتع لا يعتمر قبل الحج قال شارحه هذا بناء على أن المكي ممنوع من العمرة المفردة أيضا ، وقد سبق أنه غير صحيح بل إنه ممنوع من التمتع والقران وهذا المتمتع آفاقي غير ممنوع من العمرة فجاز له تكرارها ; لأنها عبادة مستقلة أيضا كالطواف ا هـ .

                                                                                        وفي حاشية المدني أن ما في اللباب مسلم في حق المتمتع السائق للهدي ، أما غير السائق فلا ; لأنه خلاف مذهب أصحابنا جميعا ; لأن العمرة جائزة في جميع السنة بلا كراهة إلا في خمسة أيام لا فرق في ذلك بين المكي والآفاقي كما صرح به في النهاية والمبسوط والبحر وأخي زاده والعلامة قاسم وغيرهم ا هـ .

                                                                                        ( قوله وفي الهداية بخلاف المكي إلخ ) متصل بقوله [ ص: 394 ] وليس لأهل مكة تمتع ولا قران كذا قاله الشراح ( قوله ومقتضى الدليل أنه لا فرق بينهما ) اعترضه السندي في منسكه الكبير بأن الإلمام الصحيح المبطل للحكم لا يتصور في حق القارن ، وأما الإلمام الفاسد مع بقاء الإحرام فهو لا يبطل التمتع المشروط فيه عدم الإلمام فلا يبطل القران بالأولى ا هـ . ملخصا .

                                                                                        وقوله المكي يأثم إلخ أقول : فيه نظر يوضحه قول الهداية السابق ; لأن عمرته وحجته ميقاتيان أي بخلاف ما إذا تمتع بعدما خرج إلى الكوفة فإنه لا يصح ; لأنه وإن كان إحرامه للعمرة آفاقيا لكن إحرامه للحج مكي فهو حينئذ من أهل المسجد الحرام ، وأما القارن فلا لما علمت فلم تشمل الآية هذا المكي القارن ; لأنه بخروجه صار آفاقيا ، وإنما تشمل من لم يخرج هذا ما ظهر لي فتدبره ( قوله وإيجابهم دم الجناية على المكي إلخ ) قد علمت أن المكي إذا خرج إلى الميقات وتمتع لم يصر بمنزلة الآفاقي ; لأن حجته مكية ، ويصير آثما كما قدمه والدم الواجب عليه دم جناية لما ارتكبه من النهي وهذا لم يوجد في الآفاقي أصلا ; لأنه ليس مكيا ثم إن وجوب الدم على المكي مبني على صحة تمتعه كما مر والآفاقي إذا ألم بأهله ثم حج لم يكن متمتعا إذا لم يسق الهدي فقوله إذا تمتع غير ظاهر فإيجاب الدم عليه إن كان لمخالفة النهي فلا وجه له لما علمت أنه ليس مكيا بل ليس متمتعا أصلا ، وإن كان لمجرد إلمامه بأهله بعد عمرته فلا وجه له أيضا لما سيأتي في الصفحة الثانية أنه لو بعث الهدي وتعجل ذبحه قبل يوم النحر وألم بأهله فلا شيء عليه مطلقا سواء حج من عامه أو لا وفي مسألتنا إن لم يسق الهدي فلا شيء عليه بالأولى .

                                                                                        ( قوله والعمرة له في أشهر الحج ولا تكره إلخ ) هذا مخالف لما سبق في الحاصل ( قوله وبينه في المحيط ) وسيأتي بيانه أيضا في باب إضافة الإحرام إلى الإحرام ، والذي مشى عليه المصنف هناك أن المرفوض الحج .

                                                                                        ( قوله وعليه عمرة ودم ) أي دم للرفض وهو دم جبر كذا في اللباب ( قوله وتعقبه في فتح القدير بأن الظاهر الإطلاق إلخ ) أقول : نقل في الشرنبلالية كلام المحبوبي عن العناية ثم قال وقول المحبوبي هو الصحيح نقله الشيخ الشلبي عن الكرماني ا هـ ، وعليه فإطلاق كلام الهداية فيما تقدم مقيد بما ذكره المحبوبي تأمل .




                                                                                        الخدمات العلمية