ثم اعلم أن في قول المصنف في أصل المسألة دبغ إشارة إلى أنه يستوي أنه يكون ، فإن الدابغ مسلما أو كافرا أو صبيا أو مجنونا أو امرأة إذا حصل به مقصود الدباغ ، فإنه يغسل كذا في السراج الوهاج وفيه مسألة دبغه الكافر وغلب على الظن أنهم يدبغون بالسمن النجس قال بعضهم نعم ; لأنه طاهر كجلد الشاة المذكاة وقال بعضهم : لا يجوز أكله ، وهو الصحيح لقوله تعالى { جلد الميتة بعد الدباغ هل يجوز أكله إذا كان جلد حيوان مأكول اللحم حرمت عليكم الميتة } ، وهذا جزء منها { ميمونة رضي الله تعالى عنها إنما يحرم من الميتة أكلها مع أمره لهم بالدباغ والانتفاع } ، وأما إذا كان جلد ما لا يؤكل كالحمار ، فإنه لا يجوز أكله إجماعا ; لأن الدباغ فيه ليس بأقوى من الذكاة وذكاته لا تبيحه فكذا دباغه . ا هـ . وقال عليه السلام في شاة
وهذا الذي قدمناه في جلود الميتات كله مذهبنا وللعلماء فيه سبعة مذاهب ذكرها الإمام النووي في شرح المهذب فنقتصر منها على ما اشتهر من المذاهب منها ما ذهب إليه أن كل حيوان ينجس بالموت طهر جلده بالدباغ ما عدا الكلب والخنزير وما تولد منهما أو من أحدهما فلا يدخل الآدمي في هذا العموم عنده ; لأن الصحيح عنده أن الآدمي لا ينجس بالموت فجلده طاهر من غير دبغ لكن لا يجوز استعماله لحرمته وتكريمه ومنها ما ذهب إليه الشافعي أنه لا يطهر بالدباغ شيء ، وهو رواية عن أحمد ومنها ما ذهب إليه مالك أنه يطهر الجميع حتى الكلب والخنزير إلا أنه يطهر ظاهره دون باطنه فيستعمل في اليابس دون الرطب وجه قول مالك قوله تعالى { أحمد حرمت عليكم الميتة } ، وهو عام في الجلد وغيره وحديث عبد الله بن عكيم قال { } رواه أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بشهرين [ ص: 110 ] لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب أبو داود والترمذي وغيرهم قال والنسائي الترمذي : حديث حسن ووجه قول أن الدباغ إنما يؤثر في الظاهر دون الباطن ووجه قول مالك ما رواه الشافعي أبو داود والترمذي وغيرهم من رواية والنسائي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ابن عباس } وفي صحيح أيما إهاب دبغ فقد طهر { مسلم } ، وهو حديث حسن صحيح وما رواه إذا دبغ الإهاب فقد طهر البخاري في صحيحيهما عن ومسلم رضي الله عنهما { ابن عباس } وفي الباب أحاديث أخر ذكرها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شاة ميتة هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به فقالوا يا رسول الله إنها ميتة قال إنما حرم أكلها النووي في شرح المهذب وإنما خرج الكلب والخنزير ; لأن الحياة أقوى من الدباغ بدليل أنها سبب لطهارة الجملة والدباغ إنما يطهر الجلد فإذا كانت الحياة لا تطهرهما فالدباغ أولى ولنا ما ذكرناه من الأحاديث في دليل ، وهو كما تراه عام فإخراج الخنزير منه لمعارضة الكتاب إياه وهو قوله تعالى { الشافعي أو لحم خنزير فإنه رجس } بناء على عود الضمير إلى المضاف إليه ; لأنه صالح لعوده وعند صلاحية كل من المتضايفين لذلك يجوز كل من الأمرين وقد جوز عود ضمير ميثاقه في قوله تعالى { ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } إلى كل من العهد ولفظ الجلالة وتعين عوده إلى المضاف إليه في قوله تعالى { واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون } ضرورة صحة الكلام وإلى المضاف في قولك رأيت ابن زيد فكلمته ; لأن المحدث عنه بالرؤية رتب على الحديث الأول عنه الحديث الثاني فتعين هو مرادا به ، وإلا اختل النظم
فإذا جاز كل منهما لغة والموضع موضع احتياط وجب إعادته على ما فيه الاحتياط ، وهو بما قلنا كذا قرره العلامة في فتح القدير أخذا من النهاية ومعراج الدراية وفي غاية البيان ومما ظهر لي في فؤادي من الأنوار الربانية والأجوبة الإلهامية أن الهاء لا يجوز أن ترجع إلى اللحم ; لأن قوله { فإنه رجس } خرج في مقام التعليل ، فلو رجع إليه لكان تعليل الشيء بنفسه ، فهو فاسد لكونه مصادرة ، وهذا ; لأن نجاسة لحمه عرفت من قوله { أو لحم خنزير } ; لأن حرمة الشيء مع صلاحيته للغذاء لا للكرامة آية النجاسة فحينئذ يكون معناه كأنه قال لحم خنزير نجس ، فإن لحمه نجس أما إذا رجع الضمير إلى الخنزير فلا فساد ; لأنه حينئذ يكون حاصل الكلام لحم خنزير نجس ; لأن الخنزير نجس يعني أن هذا الجزء من الخنزير نجس ; لأن كله نجس هذا هو التحقيق في الباب لأولي الألباب ا هـ .
وتعقبه شارح متأخر بأنه عند التأمل بمعزل عن الصواب ، وكيف لا والجري على هذا المنوال مما يسد باب التعليل بالأوصاف المناسبة للأحكام ولا شك أنه لا يلزم من كون الشيء علامة على شيء أن لا يصح التصريح بكون الشيء الثاني علة للشيء الأول بجعل الشارع لما فيه من الوصف المناسب لذلك بل ذلك يصحح التصريح بكونه علة ، ولا يلزم منه تعليل الشيء بنفسه قطعا ، ولنوضحه فيما نحن بصدده فنقول قوله إنه رجس تعليل للتحريم وكون التحريم لا للتكريم علامة على نجاسة المحرم كما هنا يصحح التصريح بكونه نجسا علة لتحريمه لا أنه يمنع منه ، وليس فيه تعليل النجاسة بالنجاسة بل تعليل التحريم الكائن لا للتكريم بوصف مناسب له قائم بالعين المحرمة ، وهو القذارة حثا على مكارم الأخلاق والتزام المروءة بمجانبة الأقذار والنزاهة منها ونظيره قوله تعالى { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا } فقوله { إنه كان فاحشة ومقتا } تعليل لتحريم نكاح منكوحات الآباء مع أن تحريم نكاحهن علامة على قبحه ممقوتا عند الله تعالى فلم يمنع ذلك من التصريح به علة له ا هـ .
وهو كما ترى في غاية الحسن والتحقيق ، وأما الجواب عن احتجاج أما على الآية ، فهو أنها عامة خصتها السنة كذا أجاب أحمد النووي عنها في شرح المهذب ، وأما عن حديث عبد الله بن عكيم [ ص: 111 ] فالاضطراب في متنه وسنده يمنع تقديمه على حديث رضي الله عنهما ، فإن الناسخ أي معارض فلا بد من مشاكلته في القوة ; ولذا قال به ابن عباس وقال هو آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تركه للاضطراب فيه أما في السند فروى أحمد عبد الرحمن عن ابن عكيم كما قدمنا وروى أبو داود من جهة خالد الحذاء عن الحكم بن عتبة بالتاء فوق عن عبد الرحمن أنه انطلق هو وناس إلى عبد الله بن عكيم قال فدخلوا ووقفت على الباب فخرجوا إلي فأخبروني أن عبد الله بن عكيم أخبرهم { جهينة } الحديث ففي هذا أنه سمع من الداخلين وهم مجهولون ، وأما في المتن ففي رواية بشهر وفي أخرى بأربعين يوما وفي أخرى بثلاثة أيام هذا مع الاختلاف في صحبة أنه عليه السلام كتب إلى ابن عكيم ثم كيف كان لا يوازي حديث الصحيح في جهة من جهات الترجيح ثم لو كان لم يكن قطعيا في معاضته ; لأن الإهاب اسم لغير المدبوغ وبعده يسمى شنا وأديما ابن عباس
وما رواه في الأوسط من لفظ هذا الحديث هكذا { الطبراني } في سنده كنت رخصت لكم في جلود الميتة فلا تنتفعوا من الميتة بجلد ولا عصب فضالة بن مفضل مضعف والحق أن حديث ابن عكيم ظاهر في النسخ لولا الاضطراب المذكور ، فإن من المعلوم أن أحدا لا ينتفع بجلد الميتة قبل الدباغ ; لأنه حينئذ مستقذر فلا يتعلق النهي به ظاهرا كذا في فتح القدير وفيه كلام من وجوه الأول أنه ذكر أن الترمذي حسنه وقد قدمناه أيضا والحسن لا اضطراب فيه الثاني أن قوله مع الاختلاف في صحبة ابن عكيم لا يقدح في حجيته ; لأنه على تقدير كونه ليس صحابيا يكون الحديث مرسلا وأنتم تعملون به الثالث أن قوله الحق أن حديث ابن عكيم ظاهر في النسخ إلخ أخذا من قول الحازمي كما نقله الزيلعي المخرج عنه أنه قال وطريق الإنصاف أن حديث ابن عكيم ظاهر الدلالة في النسخ ولكنه كثير الاضطراب غير مسلم ; لأن أخبارنا مطلقة فيجوز أن يكون بعضها قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بدون المدة المذكورة في حديث ابن عكيم على الاختلاف فيها ، وبهذا صرح النووي في شرح المهذب ويمكن الجواب عن الأول بما ذكره النووي أن الترمذي إنما حسنه بناء على اجتهاده وقد بين هو وغيره وجه ضعفه وعن الثاني بأن هذا أعني كونه مرسلا صالح لأن يجاب به على مذهب من يرى العمل بالمرسل لا أنه جواب عن حديث ابن عكيم على مقتضى مذهبنا
وأما الجواب عن احتجاج ، فهو مخالف للنصوص الصحيحة التي قدمناها ، فإنها عامة في طهارة الظاهر والباطن وأصرح من ذلك ما رواه مالك من حديث { البخاري سودة قالت ماتت لنا شاة فدبغنا مسكها ، وهو جلدها فمازلنا ننتبذ فيه حتى صار شنا } ، وهو حديث صحيح ، فإنه استعمل في مائع وهم لا يجيزونه ، وإن كانوا يجيزون شرب الماء منه ; لأن الماء لا يتنجس عندهم إلا بالتغير
وأما الجواب عن احتجاج إن قلنا بأن الكلب ليس بنجس العين ، وإن جلده يطهر بالدباغ ، فهو عموم الأحاديث الصحيحة المتقدمة ، فإنه يدخل في عمومها الكلب ; لأن أيا في الحديث نكرة وصفت بصفة عامة فتعم كما عرف في الأصول ، وأما الخنزير فإنما خرج عن العموم لعارض ذكرناه ، ولقد أنصف الشافعي النووي حيث قال في شرح المهذب واحتج أصحابنا بأحاديث لا دلالة فيها فتركها " لأني التزمت في خطبة الكتاب الإعراض عن الدلائل الواهية " ا هـ
وإن قلنا إن الكلب كالخنزير فلا يحتاج إلى الجواب وقد قدمنا أن الدباغ جائز بكل ما يمنع النتن والفساد ، ولو ترابا أو ملحا وقال لا يجوز بالشمس والتراب والملح لما رواه الشافعي الدارقطني من حديث والبيهقي في شاة ابن عباس ميمونة قال إنما حرم أكلها أو ليس في الماء والقرظ ما يطهرها ، وهو حديث حسن ذكره النووي في شرح المهذب ورواه أبو داود في سننهما بمعناه عن والنسائي ميمونة قال يطهرها الماء والقرظ ولنا ما تقدم من الأحاديث الصحيحة ، فإن اسم الدباغ يتناول ما يقع بالتشميس والتتريب فلا [ ص: 112 ] يقيد بشيء ; ولأن المقصود يحصل به فلا معنى لاشتراط غيره
وليس الحديث الذي استدل به مما يقتضي الاختصاص بل المراد به ما في معناه بالإجماع ولا يختص بما ذكر في الحديث ثم عندنا يجوز الشافعي وينتفع به ، وهو قول بيع الجلد المدبوغ في الجديد وجمهور العلماء ، وأما الشافعي فقد نقل بيعه قبل الدباغ النووي في شرح المهذب أن يقول بجواز بيعه ورهنه كالثوب النجس ، وهو سهو منه ، فإن مذهب أبا حنيفة عدم جواز أبي حنيفة ذكره في المحيط وشرح بيع جلود الميتة قبل الدباغ وكثير من الكتب وفي بعض الكتب ذكر خلافا قال بعضهم : إنه ملحق بالميتة وبعضهم ألحقه بالخمر فالظاهر منه الاتفاق على عدم الجواز . الطحاوي
واعلم أن ما طهر جلده بالدباغ طهر بالذكاة لحمه وجلده سواء كان مأكولا أو لا أما طهارة جلده ، فهو ظاهر المذهب كما في البدائع وفي النهاية أنه اختيار بعض المشايخ وعند بعضهم إنما يطهر جلده بالذكاة إذا لم يكن سؤره نجسا ا هـ .
وأما طهارة لحمه إذا كان غير مأكول فقد اختلف فيه فصحح في البدائع والهداية والتجنيس طهارته وصحح في الأسرار والكفاية والتبيين نجاسته وفي المعراج أنه قول المحققين من أصحابنا وفي الخلاصة هو المختار واختاره قاضي خان ، وفي التبيين أنه قول أكثر المشايخ ، وأما المصنف فقد اختلف كلامه فصحح في الكافي نجاسته واختار في الكنز في الذبائح طهارته وسنتكلم عليها بدلائلها وبيان ما هو الحق ثمة إن شاء الله تعالى لكن في كثير من الكتب أن الذكاة إنما توجب الطهارة في الجلد واللحم إذا كانت من الأهل في المحل ، وهو ما بين اللبة واللحيين ، وقد سمى بحيث لو كان مأكولا يحل أكله بتلك الذكاة فذبيحة المجوسي لا توجب الطهارة ; لأنها إماتة وقد قدمنا عن معراج الدراية معزيا إلى المجتبى أن توجب الطهارة على الأصح ، وإن لم يكن مأكولا ، وكذا نقل صاحب المعراج في هذه المسألة الطهارة عن القنية أيضا هنا وصاحب القنية هو صاحب المجتبى ، وهو ذبيحة المجوسي وتارك التسمية عمدا المشهور علمه وفقهه ويدل على أن هذا هو الأصح أن صاحب النهاية ذكر هذا الشرط الذي قدمناه بصيغة قيل معزيا إلى فتاوى الإمام الزاهدي قاضي خان وفي منية المصلي لا تجوز الصلاة عليه ما لم يغسل ، وإن علم أنه مدبوغ بشيء طاهر جاز ، وإن لم يغسل ، وإن شك فالأفضل أن يغسل . ا هـ . السنجاب إذا أخرج من دار الحرب وعلم أنه مدبوغ بودك الميتة
[ ص: 109 ]