العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
إذا اتفق ما نزل مع السبب في العموم ، أو اتفق معه في الخصوص ، حمل العام على عمومه ، والخاص على خصوصه .
ومثال الأول قوله تعالى : ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ، عن قال : أنس
[ ص: 79 ] ويسألونك عن المحيض . . الآية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جامعوهن في البيوت ، واصنعوا كل شيء إلا النكاح “ . " إن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيوت ، فسئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك ، فأنزل الله :
ومثال الثاني قوله : وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى ، فإنها نزلت في ، والأتقى : أفعل تفضيل مقرون : بـ " أل " العهدية فيختص بمن نزل فيه ، وإنما تفيد " أل " العموم إذا كانت موصولة أو معرفة في جمع على الراجح ، و " أل " في " الأتقى " ليست موصولة لأنها لا توصل بأفعل التفضيل ، و " الأتقى " ليس جمعا ، بل هو مفرد ، والعهد موجود لا سيما وأن صيغة أفعل تدل على التمييز ، وذلك كاف في قصر الآية على من نزلت فيه ، ولذا قال أبي بكر : الأتقى الواحدي في قول جميع المفسرين : " عن أبو بكر الصديق أن عروة أعتق سبعة كلهم يعذب في الله : أبا بكر الصديق ، بلال وعامر بن فهيرة ، والنهدية وابنتها ، وأم عيسى ، وأمة بني الموئل ، وفيه نزلت وسيجنبها الأتقى . . . إلى آخر السورة ، وروي نحوه عن وزاد فيه : " فنزلت هذه الآية : عامر بن عبد الله بن الزبير فأما من أعطى واتقى . . . إلى قوله : وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى .
أما إذا كان السبب خاصا ونزلت الآية بصيغة العموم فقد اختلف الأصوليون : أتكون العبرة بعموم اللفظ أم بخصوص السبب ؟
1- فذهب الجمهور إلى أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فالحكم الذي يؤخذ من اللفظ العام يتعدى صورة السبب الخاص إلى نظائرها ، كآيات اللعان التي نزلت في قذف هلال بن أمية زوجته : " فعن : ابن عباس هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي -صلى الله عليه وسلم- بشريك بن سحماء . فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
" البينة وإلا حد في ظهرك " فقال : يا رسول الله . . إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا [ ص: 80 ] ينطلق يلتمس البينة ؟ فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول : " البينة وإلا حد في ظهرك " ، فقال هلال : والذي بعثك بالحق إني لصادق ، ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد ، ونزل جبريل فأنزل عليه : والذين يرمون أزواجهم . . . حتى بلغ : إن كان من الصادقين . . فيتناول الحكم المأخوذ من هذا اللفظ العام : أن والذين يرمون أزواجهم غير حادثة هلال دون احتياج إلى دليل آخر .
وهذا هو الرأي الراجح والأصح ، وهو الذي يتفق مع عموم أحكام الشريعة ، ، والذي سار عليه الصحابة والمجتهدون من هذه الأمة فعدوا بحكم الآيات إلى غير صورة سببها . كنزول آية الظهار في أوس بن الصامت ، أو سلمة بن صخر - على اختلاف الروايات في ذلك ، والاحتجاج بعموم آيات نزلت على أسباب خاصة شائع لدى أهل العلم ، قال ابن تيمية : " قد يجيء هذا كثيرا ومن هذا الباب قولهم : هذه الآية نزلت في كذا ، لا سيما إن كان المذكور شخصا كقولهم : إن آية الظهار نزلت في امرأة أوس بن الصامت ، وإن آية الكلالة نزلت في ، وأن قوله : جابر بن عبد الله وأن احكم بينهم ، نزلت في بني قريظة والنضير ، ونظائر ذلك مما يذكرون أنه نزل في قوم من المشركين بمكة ، أو في قوم من اليهود والنصارى ، أو في قوم من المؤمنين ، فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآية يختص بأولئك الأعيان دون غيرهم ، هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق ، والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب هل يختص بسببه فلم يقل أحد إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين ، وإنما غاية ما يقال : إنها تختص بنوع ذلك الشخص ، فتعم ما يشبهه ، ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ ، والآية التي لها سبب معين إن كانت أمرا أو نهيا فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته ، وإن كان خبرا يمدح أو يذم فهي متناولة لذلك الشخص ولمن كان بمنزلته " .
[ ص: 81 ] 2- وذهب جماعة إلى أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ ، فاللفظ العام دليل على صورة السبب الخاص ، ولا بد من دليل آخر لغيره من الصور كالقياس ونحوه ، حتى يبقى لنقل رواية السبب الخاص فائدة ، ويتطابق السبب والمسبب تطابق السؤال والجواب . "