وجوه إعجاز القرآن
لقد كان لنشأة علم الكلام في الإسلام أثر أصدق ما يقال فيه : إنه كلام في كلام ، وما فيه من وميض التفكير يجر متتبعه إلى مجاهل من القول بعضها فوق [ ص: 253 ] بعض . وقد بدأت مأساة علماء الكلام في القول بخلق القرآن ، ثم اختلفت آراؤهم وتضاربت في وجوه إعجازه :
أ- فذهب ومن تابعه - أبو إسحاق إبراهيم النظام من كالمرتضى الشيعة - إلى أن إعجاز القرآن كان بالصرفة ، ومعنى الصرفة في نظر : أن الله صرف النظام العرب عن معارضة القرآن مع قدرتهم عليها ، فكان هذا الصرف خارقا للعادة ، ومعناها في نظر : أن الله سلبهم العلوم التي يحتاج إليها في المعارضة ، ليجيئوا بمثل القرآن - وهو قول يدل على عجز ذويه ، فلا يقال فيمن سلب القدرة على شيء أن الشيء أعجزه ما دام في مقدوره أن يأتي به في وقت ما ، وإنما المعجز حينئذ هو قدر الله ، فلا يكون القرآن معجزا ، وحديثنا عن إعجاز مضاف إلى القرآن سوف يظل ثابتا له في كل عصر ، لا عن إعجاز الله . المرتضى
قال : " ومما يبطل القول بالصرفة ، أنه لو كانت المعارضة ممكنة ، وإنما منع منها الصرفة ، لم يكن الكلام معجزا ، وإنما يكون المنع معجزا ، فلا يتضمن الكلام فضلا على غيره في نفسه " . القاضي أبو بكر الباقلاني
والقول بالصرفة قول فاسد يرد عليه القرآن الكريم في قوله تعالى : قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ، فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرتهم ، ولو سلبوا القدرة لم يبق فائدة لاجتماعهم ، لمنزلته منزلة اجتماع الموتى ، وليس عجز الموتى بكبير يحتفل بذكره .
ب- وذهب قوم إلى أن القرآن معجز ببلاغته التي وصلت إلى مرتبة لم يعهد لها مثيل - وهذه النظرة نظرة أهل العربية الذين يولعون بصور المعاني الحية في النسج المحكم ، والبيان الرائع .
[ ص: 254 ] جـ- وبعضهم يقول : إن وجه إعجازه في تضمنه البديع الغريب المخالف لما عهد في كلام العرب من الفواصل والمقاطع .
د- ويقول آخرون : بل إعجازه في الإخبار عن المغيبات المستقبلة التي لا يطلع عليها إلا الوحي . أو الإخبار عن الأمور التي تقدمت منذ بدء الخلق بما لا يمكن صدوره من أمي لم يتصل بأهل الكتاب .
كقوله تعالى في أهل بدر : سيهزم الجمع ويولون الدبر .
وقوله : لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق .
وقوله : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض .
وقوله : الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون .
وقوله : تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا . وسائر قصص الأولين .
وهذا قول مردود ; لأنه يستلزم أن الآيات التي لا خبر فيها عن المغيبات المستقبلة والماضية لا إعجاز فيها ، وهو باطل ، فقد جعل الله كل سورة معجزة بنفسها .
هـ- وذهب جماعة إلى أن القرآن معجز لما تضمنه من العلوم المختلفة ، والحكم البليغة .
وهناك وجوه أخرى للإعجاز تدور في هذا الفلك جمعها بعضهم في عشرة أو أكثر .
والحقيقة أن القرآن معجز بكل ما يتحمله هذا اللفظ من معنى :
فهو معجز في ألفاظه وأسلوبه ، والحرف الواحد منه في موضعه من الإعجاز [ ص: 255 ] الذي لا يغني عنه غيره في تماسك الكلمة ، والكلمة في موضعها من الإعجاز في تماسك الجملة ، والجملة في موضعها من الإعجاز في تماسك الآية .
وهو معجز في بيانه ونظمه ، يجد فيه القارئ صورة حية للحياة والكون والإنسان .
وهو معجز في معانيه التي كشفت الستار عن الحقيقة الإنسانية ورسالتها في الوجود .
وهو معجز بعلومه ومعارفه التي أثبت العلم الحديث كثيرا من حقائقها المغيبة .
وهو معجز في تشريعه وصيانته لحقوق الإنسان وتكوين مجتمع مثالي تسعد الدنيا على يديه .
والقرآن -أولا وآخرا- هو الذي صير العرب رعاة الشاء والغنم ساسة شعوب وقادة أمم ، وهذا وحده إعجاز .
قال في كتابه : " فخرج من هذا أن القرآن إنما صار معجزا ; لأنه جاء بأفصح الألفاظ ، في أحسن نظوم التأليف ، مضمنا أصح المعاني ، من توحيد الله وتنزيهه في صفاته ، ودعاء إلى طاعته ، وبيان لمنهاج عبادته ، في تحليل وتحريم ، وحظر وإباحة ، ومن وعظ وتقويم ، وأمر بمعروف ونهي عن منكر ، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق ، وزجر عن مساويها ، واضعا كل شيء منها موضعه الذي لا يرى شيء أولى منه ، ولا يتوهم في صورة العقل أمر أليق به منه ، مودعا أخبار القرون الماضية وما نزل من مثلات الله بمن عصى وعاند منهم ، منبئا عن الكوائن المستقبلة في الأعصار الماضية من الزمان - جامعا في ذلك بين الحجة والمحتج له ، والدليل والمدلول عليه ، ليكون ذلك أوكد للزوم ما دعا إليه ، وإنباء عن وجوب ما أمر به ونهى عنه . الخطابي
ومعلوم أن الإتيان بمثل هذه الأمور ، والجمع بين شتاتها حتى تنتظم وتتسق ، [ ص: 256 ] أمر تعجز عنه قوى البشر ، ولا تبلغه قدرتهم ، فانقطع الخلق دونه ، وعجزوا عن معارضته بمثله " . "