قوله تعالى: ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين (222) وقول الله عز وجل: ويسألونك عن المحيض قل هو أذى إلى قوله: ويحب المتطهرين [ ص: 167 ] خرج في "صحيحه " من حديث مسلم : نا حماد بن سلمة عن ثابت، ، أنس ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض إلى آخر الآية . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح " - وذكر بقية الحديث . فقوله عز وجل: أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله عز وجل: ويسألونك عن المحيض أي: عن حكمه والمباشرة فيه .
و"المحيض "، قيل: إنه مصدر كالحيض، وقيل: بل هو اسم للحيض . فيكون اسم مصدر .
وقوله تعالى: قل هو أذى فسر الأذى بالدم النجس وبما فيه من القذر والنتن وخروجه من مخرج البول، وكل ذلك يؤذي .
قال : الأذى هو المكروه الذي ليس بشديد جدا، كقوله: الخطابي لن يضروكم إلا أذى وقوله: إن كان بكم أذى من مطر قال: والمراد: أذى يعتزل منها موضعه لا غيره، ولا يتعدى ذلك إلى سائر بدنها، فلا يجتنبن ولا يخرجن من البيوت كفعل المجوس وبعض أهل الكتاب، فالمراد: أن الأذى بهن لا يبلغ الحد الذي يجاوزونه إليه، وإنما يجتنب منهن موضع الأذى، فإذا تطهرن حل غشيانهن .
وقوله تعالى: فاعتزلوا النساء في المحيض قد فسره النبي - صلى الله عليه وسلم - باعتزال النكاح . وسيأتي فيما بعد - إن شاء الله تعالى - ذكر ما يحرم من [ ص: 168 ] مباشرة الحائض وما يحل منه في الباب الذي يختص المباشرة من الكتاب .
وقد قيل: بأن ها هنا: مكان الحيض، وهو الفرج، ونص على ذلك المراد بالمحيض ، وحكاه الإمام أحمد عن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وجمهور المفسرين، وحكى الإجماع على أن المراد بالمحيض المذكور في أول الآية: الدم . وقد خالف في ذلك الماوردي ابن أبي موسى من أصحابنا في "شرح الخرقي " . فزعم أن مذهب أنه الفرج - أيضا -، وفيه بعد . أحمد
وجمهور أصحاب على أن المراد بالمحيض في الآية الدم، في الموضعين . وقوله: الشافعي ولا تقربوهن نهي بعد الأمر باعتزالهن في المحيض عن قربانهن فيه، والمراد به: الجماع - أيضا -، وفيه تأكيد لتحريم وقوله: الوطء في الحيض . حتى يطهرن فيه قراءتان: "يطهرن " - بسكون الطاء وضم الهاء -، و"يطهرن " - بفتح الطاء وتشديدها وتشديد الهاء . وقد قيل: إن القراءة الأولى أريد بها انقطاع الدم، والقراءة الثانية أريد بها التطهر بالماء . وممن فسر الأولى بانقطاع الدم ابن عباس وغيرهما . ومجاهد وابن جرير وغيره: يشيرون إلى حكاية الإجماع على ذلك . ومنع غيره الإجماع، وقال: كل من القراءتين تحتمل أن يراد بها الاغتسال بالماء، وأن يراد بها انقطاع الدم، وزوال أذاه . [ ص: 169 ] وفي ذلك نظر، فإن قراءة التشديد تدل على نسبة فعل التطهر إليها . فكيف يراد بذلك مجرد انقطاع الدم ولا صنع لها فيه . وقوله: حتى يطهرن غاية النهي عن قربانهن، فيدل بمفهومه على أن ما بعد التطهير يزول النهي . فعلى قراءة التشديد المفسرة بالاغتسال إنما يزول النهي بالتطهر بالماء . وعلى قراءة التخفيف يدل على زوال النهي بمجرد انقطاع الدم . واستدل بذلك فرقة قليلة على وهو قول إباحة الوطء بمجرد انقطاع الدم، ، وأصحابه، إذا انقطع الدم لأكثر الحيض، أو لدونه، ومضى عليها وقت صلاة، أو كانت غير مخاطبة بالصلاة كالذمية . وحكي عن طائفة إطلاق الإباحة، منهم: أبي حنيفة ابن بكير وابن عبد الحكم . وفي نقله عنهما نظر . والجمهور على أنه لا يباح بدون الاغتسال، وقالوا: الآية وإن دلت بمفهومها على الإباحة بالانقطاع إلا أن الإتيان مشروط له شرط آخر وهو التطهر، والمراد به: التطهر بالماء، بقوله: فإذا تطهرن فأتوهن فدل على أنه لا يكفي مجرد التطهر، وأن الإتيان متوقف على التطهر، أو على الطهر والتطهر بعده، وفسر الجمهور التطهر بالاغتسال، كما في قوله: وإن كنتم جنبا فاطهروا وحكي عن طائفة من السلف: أن الوضوء كاف بعد انقطاع الدم، منهم: ، مجاهد ، وعكرمة ، على اختلاف عنهم في ذلك . قال وطاوس : روينا بإسناد فيه مقال عن ابن المنذر عطاء وطاوس ، أنهم [ ص: 170 ] قالوا: إذا أدرك الزوج الشبق أمرها أن تتوضأ، ثم أصاب منها وأصح من ذلك عن ومجاهد عطاء موافقة القول الأول - وكراهته بدون الغسل -، قال: ولا يثبت عن ومجاهد خلاف ذلك ، قال وإذا بطل أن يثبت عن هؤلاء قول ثان كان القول الأول كالإجماع، انتهى . طاوس
ولذلك ضعف الرواية بذلك عن القاضي إسماعيل المالكي طاووس لأنها من رواية وعطاء عنهما، وهو ضعيف . ليث بن أبي سليم
وحكي عن بعض السلف أن التطهر غسل الفرج خاصة، رواه ابن جريج وليث عن ، ورواه عطاء عن معمر ، وحكاه بعض أصحابنا عن قتادة ، ولا أظنه يصح عنه، وقاله قوم من أهل الظاهر . والصحيح الذي عليه جمهور العلماء: أن تطهر الحائض كتطهر الجنب . وهو الاغتسال . الأوزاعي
ولو أحدهما: يباح بالتيمم، وهو مذهبنا، ومذهب عدمت الماء، فهل يباح وطؤها بالتيمم; الشافعي والجمهور، وقول وإسحاق يحيى بن بكير من المالكية، والقاضي إسماعيل منهم أيضا .
وقال مكحول : لا يباح وطؤها بدون الاغتسال بالماء . وقوله: ومالك فأتوهن إباحة، وقوله: من حيث أمركم الله أي: باعتزالهن، وهو الفرج، أو ما بين السرة والركبة، على ما فيه من الاختلاف كما سيأتي . روي هذا عن ، ابن عباس ومجاهد . وقيل: المراد: من الفرج دون الدبر، رواه وعكرمة علي بن أبي طلحة عن . [ ص: 171 ] وروى ابن عباس أبان بن صالح، عن ، عن مجاهد ، قال: ابن عباس من حيث أمركم الله أن تعتزلوهن . ورواه ، عن عكرمة - أيضا . وقيل: المراد من قبل التطهر لا من قبل الحيض، وروي عن ابن عباس - أيضا -، وغيره . و"التوابون ": الرجاعون إلى طاعة الله من مخالفته . و"المتطهرون ": فسره ابن عباس وغيره: بالتطهر بالماء، عطاء وغيره: بالتطهر من الذنوب . وعن ومجاهد ، أنه فسره: بالتطهر من أدبار النساء . ويشهد له قول قوم مجاهد لوط: إنهم أناس يتطهرون
* * *
والاعتزال الذي أمر الله به: هو اجتناب جماعهن، كما فسره بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : كان أهل الجاهلية يصنعون في الحيض نحوا من صنيع المجوس، فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنزلت: عكرمة ويسألونك عن المحيض قل هو أذى الآية، فلم يزد الأمر فيهن إلا شدة، فنزلت: فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله أن تعتزلوا . أخرجه بإسناد صحيح . وهو يدل على أن أول ما نزل الأمر باعتزالهن فهم كثير من الناس منه [ ص: 172 ] الاعتزال في البيوت والفرش كما كانوا يصنعون أولا، حتى نزل آخر الآية: القاضي إسماعيل، فأتوهن من حيث أمركم الله ففهم من ذلك أن الله أمر باعتزالهن في الوطء خاصة . وفسر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك بقوله:وبفعله مع أزواجه; حيث كان يباشرهن في المحيض . "اصنعوا كل شيء غير النكاح "،