قوله تعالى: إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون (7) أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون (8) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم (9) دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين
وانقسم بنو آدم في الدنيا إلى قسمين:
أحدهما: من أنكر أن يكون للعباد بعد الدنيا دار للثواب والعقاب، وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم: إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا [ ص: 537 ] بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون وهؤلاء همهم التمتع بالدنيا، واغتنام لذاتها قبل الموت، كما قال الله تعالى: والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم ومن هؤلاء من كان يأمر بالزهد في الدنيا، لأنه يرى أن الاستكثار منها يوجب الهم والغم، ويقول: كلما كثر التعلق بها تألمت النفس بمفارقتها عند الموت، فكان هذا غاية زهدهم في الدنيا .
والقسم الثاني: من يقر بدار بعد الموت للثواب والعقاب، وهم المنتسبون إلى شرائع المرسلين، وهم منقسمون إلى ثلاثة أقسام: ظالم لنفسه، ومقتصد . وسابق بالخيرات بإذن الله .
فالظالم لنفسه: هم الأكثرون منهم، وأكثرهم وقف مع زهرة الدنيا وزينتها، فأخذها من غير وجهها، واستعملها في غير وجهها، وصارت الدنيا أكبر همه، لها يغضب، وبها يرضى، ولها يوالي، وعليها يعادي، وهؤلاء هم أهل اللهو واللعب والزينة والتفاخر والتكاثر، وكلهم لم يعرف المقصود من الدنيا ولا أنها منزل سفر يتزود منها لما بعدها من دار الإقامة، وإن كان أحدهم يؤمن بذلك إيمانا مجملا فهو لا يعرفه مفصلا، ولا ذاق ما ذاقه أهل المعرفة بالله في الدنيا مما هو أنموذج ما ادخر لهم في الآخرة .
والمقتصد منهم: أخذ الدنيا من وجوهها المباحة، وأدى واجباتها، وأمسك لنفسه الزائد على الواجب يتوسع به في التمتع بشهوات الدنيا، وهؤلاء قد اختلف في دخولهم في اسم الزهادة في الدنيا كما سبق ذكره، ولا عقاب عليهم في ذلك، إلا أنه ينقص من درجاتهم من الآخرة بقدر توسعهم في الدنيا . [ ص: 538 ] قال : لا يصيب عبد من الدنيا شيئا إلا نقص من درجاته عند الله، وإن كان عليه كريما . خرجه ابن عمر بإسناد جيد . وروي مرفوعا من حديث ابن أبي الدنيا بإسناد فيه نظر . عائشة
وروى في كتاب "الزهد" بإسناده: أن رجلا دخل على الإمام أحمد فكساه، فخرج فمر على معاوية أبي مسعود الأنصاري ورجل آخر من الصحابة . فقال أحدهما له: خذها من حسناتك، وقال الآخر: من طيباتك .
وبإسناده عن قال: لولا أن تنقص حسناتي لخالطتكم في لين عيشكم، ولكني سمعت الله عير قوما فقال: عمر أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا
وقال : إن شئت استقل من الدنيا، وإن شئت استكثر منها، فإنما تأخذ من كيسك . الفضيل بن عياض
ويشهد لهذا أن الله عز وجل حرم على عباده أشياء من فضول شهوات الدنيا وزينتها وبهجتها، حيث لم يكونوا محتاجين إليه، وادخره لهم عنده في الآخرة، وقد وقعت الإشارة إلى هذا بقوله عز وجل: ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة إلى قوله وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" . وقال: ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة"، " لا تلبسوا [ ص: 539 ] الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة" .
وقال : إن الله عز وجل قال وهب لموسى - عليه السلام -: إني لأذود أوليائي عن نعيم الدنيا ورخائها كما يذود الراعي الشفيق إبله عن مبارك العرة، وما ذلك لهوانهم علي، ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالما موفرا لم تكلمه الدنيا .
ويشهد لهذا ما خرجه عن الترمذي ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قتادة بن النعمان "إن الله إذا أحب عبدا حماه الدنيا، كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء" .
وخرجه ، ولفظه: الحاكم "إن الله ليحمي عبده الدنيا وهو يحبه، كما تحمون مريضكم الطعام والشراب، تخافون عليه " .
وفي "صحيح " عن مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: عبد الله بن عمرو "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر" .
وأما السابق بالخيرات بإذن الله: فهم الذين فهموا المراد من الدنيا، وعملوا بمقتضى ذلك، فعلموا أن الله إنما أسكن عباده في هذه الدار، ليبلوهم أيهم أحسن عملا، كما قال: وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا وقال: الذي خلق الموت [ ص: 540 ] والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا
قال بعض السلف: أيهم أزهد في الدنيا، وأرغب في الآخرة، وجعل ما في الدنيا من البهجة والنضرة محنة لينظر من يقف منهم معه، ويركن إليه . ومن ليس كذلك، كما قال تعالى: إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ثم بين انقطاعه ونفاده، فقال: وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا فلما فهموا أن هذا هو المقصود من الدنيا، جعلوا همهم التزود منها للآخرة التي هي دار القرار، واكتفوا من الدنيا بما يكتفي به المسافر في سفره، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب قال في ظل شجرة، ثم راح وتركها" .
ووصى - صلى الله عليه وسلم - جماعة من الصحابة أن يكون بلاغ أحدهم من الدنيا كزاد الراكب، منهم: ، سلمان وأبو عبيدة بن الجراح ، ، وأبو ذر ، ووصى وعائشة أن يكون في الدنيا كأنه غريب أو عابر سبيل، وأن يعد نفسه من أهل القبور . ابن عمر