والكلام في " المنطق " إنما وقع لما فاحتجنا أن ننظر في هذه الآلة . هل هي كما قالوا ; أو ليس الأمر كذلك ؟ ومن شيوخهم من إذا بين له من فساد أقوالهم ما يتبين به ضلالهم وعجز عن دفع ذلك يقول : هذه علوم قد صقلتها الأذهان أكثر من ألف سنة وقبلها الفضلاء . فيقال له عن هذا أجوبة : ( أحدها ) : أنه ليس الأمر كذلك . فما زال العقلاء الذين هم أفضل من هؤلاء ينكرون عليهم ويبينون خطأهم وضلالهم . فأما القدماء فالنزاع بينهم كثير معروف وفي كتب أخبارهم ومقالاتهم من ذلك ما ليس هذا موضع ذكره . فأما أيام الإسلام فإن كلام نظار المسلمين في بيان فساد ما أفسدوه من أصولهم المنطقية والإلهية بل والطبيعية والرياضية كثير قد صنف فيه كل طائفة من طوائف نظار المسلمين حتى الرافضة [ ص: 195 ] وأما شهادة سائر طوائف أهل الإيمان والعلماء بضلالهم وكفرهم فهذا البيان عام لا يدفعه إلا معاند والمؤمنون شهداء الله في الأرض فإذا كان أعيان الأذكياء الفضلاء من الطوائف وسائر أهل العلم والإيمان معلنين بتخطئتهم وتضليلهم إما جملة وإما تفصيلا امتنع أن يكون العقلاء قاطبة تلقوا كلامهم بالقبول . زعموا أنه آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن أن يزل في فكره
( الوجه الثاني ) : أن هذا ليس بحجة فإن الفلسفة التي كانت قبل أرسطو وتلقاها من قبله بالقبول طعن أرسطو في كثير منها وبين خطأهم وأتباعه خالفوا القدماء في طائفة من أقاويلهم وبينوا خطأهم ورد وابن سينا الفلاسفة بعضهم على بعض أكثر من رد كل طائفة بعضهم على بعض . وأبو البركات وأمثاله قد ردوا على أرسطو ما شاء الله ; لأنهم يقولون إنما قصدنا الحق ليس قصدنا التعصب لقائل معين ولا لقول معين .
( والثالث ) : أن دين عباد الأصنام أقدم من فلسفتهم وقد دخل فيه من الطوائف أعظم ممن دخل في فلسفتهم وكذلك دين اليهود المبدل أقدم من فلسفة أرسطو ودين النصارى المبدل قريب من زمن أرسطو فإن أرسطو كان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة فإنه كان في زمن الإسكندر بن فيلبس الذي يؤرخ به تاريخ الروم الذي يستعمله اليهود والنصارى .
[ ص: 196 ] ( الرابع ) : أن يقال : فهب أن الأمر كذلك . فهذه العلوم عقلية محضة ليس فيها تقليد لقائل وإنما تعلم بمجرد العقل فلا يجوز أن تصحح بالنقل ; بل ولا يتكلم فيها إلا بالمعقول المجرد فإذا دل المعقول الصريح على بطلان الباطل منها لم يجز رده ; فإن أهلها لم يدعوا أنها مأخوذة عن شيء يجب تصديقه بل عن عقل محض فيجب التحاكم فيها إلى موجب العقل الصريح .