[ ص: 226 ] ( الفرق الثامن ) : أن ، والسيئة خبيثة مذمومة . ووصفها بالخبث في مثل قوله : { السيئة إذا كانت من النفس الخبيثات للخبيثين } . قال جمهور السلف : الكلمات الخبيثة للخبيثين ; وقال بعضهم الأقوال والأفعال الخبيثة للخبيثين ، وقال تعالى : { ضرب الله مثلا كلمة طيبة } - إلى قوله - { ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة } وقال : { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } والأقوال والأفعال صفات القائل الفاعل ; فإذا كانت النفس متصفة بالسوء والخبث لم يكن محلها إلا ما يناسبها ; فمن أراد أن يجعل الحيات والعقارب يعاشرون الناس كالسنانير لم يصلح ; ومن أراد أن يجعل الكذب شاهدا لم يصلح ، وكذلك من أراد أن يجعل الجاهل معلما ; أو الأحمق سائسا ; فالنفوس الخبيثة لا تصلح أن تكون في الجنة الطيبة ، بل إذا كان في النفس خبث طهرت وهذبت ، كما في الصحيح { } الحديث . إن المؤمنين إذا نجوا من النار وقفوا على قنطرة
وإذا علم أن السيئة من نفسه لم يطمع في السعادة التامة مع ما فيه من الشر ; بل علم تحقيق قوله : { من يعمل سوءا يجز به } وقوله : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } { ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره }
. وعلم أن الرب جارية أفعاله على قانون العدل والإحسان ; وفي الصحيح { } الحديث . وعلم فساد قول يمين الله ملأى الجهمية الذين يجعلون الثواب والعقاب بلا حكمة ، وهو سبحانه قد شهد أن لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط ; وهم قصدوا مناقضة [ ص: 227 ] المعتزلة في القدر والوعيد ; فلهذا سلك مسلك جهم من ينتسب إلى السنة والحديث واتباع السلف .
وكذلك سلكوا في " الإيمان والوعيد " مسلك المرجئة الغلاة جهم وأتباعه ; وجهم اشتهر عنه " نوعان " من البدعة : نوع في ( الأسماء والصفات ) فغلا في النفي ; ووافقه على ذلك الباطنية والفلاسفة ونحوهم ; والمعتزلة في الصفات دون الأسماء . والكلابية ومن وافقهم من الفقهاء وأهل الحديث في نفي الصفات الاختيارية ، والكرامية ونحوهم وافقوه على أصل ذلك ; وهو امتناع دوام ما لا يتناهى وأنه يمتنع أن يكون لم يزل متكلما إذا شاء ; وفعالا إذا يشاء ; لامتناع حوادث لا أول لها ، وعن هذا الأصل نفي وجود ما لا يتناهى في المستقبل ; وقال بفناء الجنة والنار ، ووافقه إمام أبو الهذيل المعتزلة على هذا ; لكن قال تتناهى الحركات .
فالمعتزلة في الصفات مخانيث الجهمية ، وأما الكلابية في الصفات وكذلك الأشعرية ; ولكنهم كما قال أبو إسماعيل الأنصاري : الأشعرية الإناث هم مخانيث المعتزلة ، ومن الناس من يقول : المعتزلة مخانيث الفلاسفة ; لأنه لم يعلم أن جهما سبقهم إلى هذا الأصل . أو لأنهم مخانيثهم من بعض الوجوه ، والشهرستاني يذكر أنهم أخذوا ما أخذوا عن الفلاسفة ; لأنه إنما يرى مناظرة أصحابه الأشعرية معهم بخلاف أئمة السنة ; فإن مناظرتهم إنما كانت مع الجهمية ، وهم المشهورون عند [ ص: 228 ] السلف بنفي الصفات ; وبهذا تميزوا عند السلف عن سائر الطوائف .
وأما المعتزلة فامتازوا بالمنزلة بين المنزلتين لما أحدثه عمرو بن عبيد ; وكان هو وأصحابه يجلسون معتزلين للجماعة . فيقول قتادة وغيره : أولئك المعتزلة ، وكان ذلك بعد موت الحسن . وبدعة القدرية حدثت قبل ذلك بعد موت معاوية ; ولهذا تكلم فيهم ابن عمر وابن عباس وغيرهما ; وابن عباس مات قبل ; ابن الزبير وابن عمر مات عقب موته ، وعقب ذلك تولى الحجاج العراق سنة بضع وسبعين ; فبقي الناس يخوضون في القدر بالحجاز والشام والعراق ، وأكثره كان بالشام والعراق والبصرة ، وأقله كان بالحجاز ; فلما حدثت المعتزلة وتكلموا بالمنزلة بين المنزلتين .
وقالوا : بإنفاذ الوعيد وخلود أهل التوحيد ، وإن النار لا يخرج منها من دخلها ضموا إلى ذلك القدر ، فإنه به يتم . ولم يكن الناس إذ ذاك أحدثوا شيئا من نفي الصفات ، إلى أن ظهر وهو أولهم ، فضحى به " الجعد بن درهم " خالد بن عبد الله القسري ، وقال أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح ، إنه زعم أن الله لم يتخذ بالجعد بن درهم إبراهيم خليلا ، ولم يكلم موسى تكليما - تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا - ثم نزل فذبحه وهذا كان بالعراق .
[ ص: 229 ] ثم ظهر " جهم " من ناحية المشرق من ترمذ ، ومنها ظهر رأي جهم ، ولهذا كان علماء السنة بالمشرق أكثر كلاما في رد مذهبهم من أهل الحجاز والشام والعراق ، مثل إبراهيم بن طهمان ، وخارجة بن مصعب ، ومثل ، وأمثالهم ، وقد تكلم في ذمهم عبد الله بن المبارك مالك وغيرهما ، وكذلك وابن الماجشون الأوزاعي ، وغيرهم ، وإنما اشتهرت مقالتهم من حين محنة وحماد بن زيد وغيره ، من علماء السنة فإنهم في إمارة الإمام أحمد المأمون قووا وكثروا ، فإنه قد كان بخراسان مدة واجتمع بهم ثم كتب بالمحنة من طرسوس سنة ثمانية عشرة ومائتين . وفيها مات ، وردوا أحمد إلى الحبس ببغداد إلى سنة عشرين ومائتين ، وفيها كانت محنته مع المعتصم ، ومناظرته لهم ; فلما رد عليهم ما احتجوا به ; وذكر أن طلبهم من الناس أن يوافقوهم وامتحانهم إياهم جهل وظلم ; وأراد المعتصم إطلاقه فأشار عليه من أشار بأن المصلحة ضربه لئلا تنكسر حرمة الخلافة ; فلما ضربوه قامت الشناعة في العامة ; وخافوا فأطلقوه ; وكان قد جمع له نفاة الصفات من جميع الطوائف . ابن أبي دؤاد
وعلماء السنة : كابن المبارك وأحمد وإسحاق والبخاري يسمون هؤلاء جميعهم جهمية ; وصار كثير من المتأخرين من أصحاب أحمد وغيرهم يظنون أن خصومه كانوا هم المعتزلة ، وليس كذلك ; بل المعتزلة نوع منهم .
والمقصود هنا : أن جهما اشتهر عنه بدعتان : ( إحداهما ) : نفي الصفات ; ( والثانية ) : الغلو في القدر والإرجاء . فجعل [ ص: 230 ] الإيمان مجرد معرفة القلب . وجعل العباد لا فعل لهم ولا قدرة ; وهذان مما غلت المعتزلة في خلافه فيهما ; وأما الأشعري فوافقه على أصل قوله ، ولكن قد ينازعه منازعات لفظية . وجهم لا يثبت شيئا من الصفات ; لا الإرادة ولا غيرها ، فإذا قال إن الله يحب الطاعات ويبغض المعاصي ; فمعناه الثواب والعقاب ; والأشعري يثبت الصفات كالإرادة فاحتاج إلى الكلام فيها هل هي المحبة أم لا ؟ فقال : المعاصي يحبها الله ويرضاها كما يريدها : وذكر أبو المعالي أنه أول من قال ذلك .
وأهل السنة قبله على أن . وشاع هذا القول في كثير من الله لا يحب المعاصي الصوفية فوافقوا جهما في مسائل الأفعال والقدر ; وخالفوه في الصفات كأبي إسماعيل الأنصاري صاحب ذم الكلام ، فإنه من المبالغين في ذم الجهمية في نفي الصفات ; وله كتاب في تكفير الجهمية ; ويبالغ في ذم الأشعرية مع أنهم من أقرب هذه الطوائف إلى السنة ; وربما كان يلعنهم ; وقال بعض الناس بحضرة نظام الملك : أتلعن الأشعرية ؟ فقال ألعن من يقول ليس في السموات إله ; ولا في المصحف قرآن ، ولا في القبر نبي ; وقام من عنده مغضبا . وهو مع هذا في مسألة إرادة الكائنات وخلق الأفعال أبلغ من الأشعرية ; لا يثبت سببا ولا حكمة ، بل يقول إن مشاهدة العارف الحكم لا يبق له استحسان حسنة ولا استقباح سيئة ; والحكم عنده هو المشيئة ; لأن العارف عنده من يصل إلى مقام الفناء ، والحسنة والسيئة يفترقان في حظ العبد [ ص: 231 ] لكونه ينعم بهذه ويعذب بهذه ; والالتفات إلى هذا من حظوظ النفس ; ومقام الفناء ليس فيه إلا مشاهدة مراد الحق .
والأشعري لما أثبت الفرق بين هذا وهذا من جهة المخلوق كان أعقل منهم ; فإنهم يدعون أن العارف لا يفرق ; وغلطوا في حق العبد وحق الرب ; أما العبد فيلزمهم أن يستوي عنده جميع الحوادث ; وهذا محال قطعا ، فعزلوا الفرق الرحماني ; وفرقوا بالطبعي الهوائي الشيطاني ; ومن هنا وقع خلق منهم في المعاصي ; وآخرون في الفسوق ; وآخرون في الكفر حتى جوزوا عبادة الأصنام ; ثم كثير منهم ينتقل إلى الوحدة ويصرحون بعبادة كل موجود . والمقصود الكلام على من نفى الحكم والأسباب والعدل في القدر موافقة لجهم ; - وهي بدعته الثانية بخلاف الإرجاء فإنه منسوب إلى طوائف غيره - فهؤلاء يقولون : إن الرب يجوز أن يفعل كل ما يقدر عليه ، ولهذا تجد من اتبعهم غير معظم للأمر والنهي ، والوعد والوعيد ; بل ينحل عنه أو عن بعضه ، ويتكلف لما يعتقده ، فإنهم إذا وافقوا جهما والأشعري في أن الحسن والقبيح كونه مأمورا أو محظورا ; وذلك فرق يعود إلى حظ العبد ; وهم يدعون الفناء عن الحظوظ ; فتارة يقولون : في امتثال الأمر والنهي إنه من مقام التلبيس ; وتارة يقولون : يفعل هذا لأجل أهل المارستان أي العامة - كما يقوله : الشيخ المغربي ; إلى أنواع أخر . [ ص: 232 ]
ومن سلك مسلكهم إذا عظم الأمر والنهي غايته أن يقول كما نقل عن الشاذلي : يكون الجمع في قلبك مشهودا ; والفرق على لسانك موجودا ; كما يوجد في كلامه وكلام غيره أقوال وأدعية ، وأحزاب تستلزم تعطيل الأمر والنهي مثل دعوى أن الله يعطيه على المعصية أعظم مما يعطيه على الطاعة ، ونحو هذا مما يوجب أنه يجوز عنده أن يجعل الذين اجترحوا السيئات كالذين آمنوا وعملوا الصالحات أو أفضل ، ويدعون بأدعية فيها اعتداء كما يوجد في حزب الشاذلي .
وآخرون من عوامهم يجوزون أن يكرم الله بكرامات أكبر الأولياء من يكون فاجرا ; بل كافرا ، ويقولون : هذه موهبة وعطية ، ويظنون أن تلك من كرامات الأولياء ، وتكون من الأحوال الشيطانية التي يكون مثلها للسحرة والكهان ، قال تعالى : { ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون } { واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون } { ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون } . [ ص: 233 ]
وقد قال صلى الله عليه وسلم { } الحديث . والمسلمون الذين جاءهم كتاب الله القرآن عدل كثير ممن أضله الشيطان من المنتسبين إليهم إلى أن نبذ كتاب الله وراء ظهره ، واتبع ما تتلوه الشياطين فلا يعظم من أمر القرآن بموالاته ، ولا يعادي من أمر القرآن بمعاداته ، بل يعظم من رآه يأتي ببعض الخوارق التي تأتي بمثلها السحرة والكهان بإعانة الشياطين لهم ، وهي تحصل بما تتلوه الشياطين . لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه
ثم منهم من يعرف أن هذا من الشياطين ، ولكن يعظمه لهواه ويفضله على طريقة القرآن ، وهؤلاء كفار ، كالذين قال الله تعالى فيهم : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا } { أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا } وهؤلاء ضاهوا الذين قال الله تعالى فيهم : { ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم } - إلى قوله - { ولكن الشياطين كفروا }
. ومنهم من لا يعرف أنه من الشياطين ، وقد يقع في هذا طوائف من أهل الكلام والعلم ، وأهل العبادة والتصوف ، حتى جوزوا عبادة الكواكب والأصنام لما رأوه فيها من الأحوال العجيبة التي تعينهم عليها الشياطين لما يحصل بها بعض أغراضهم من الظلم والفواحش ، فلم يبالوا بشركهم بالله وبكفرهم به وبكتابه إذا [ ص: 234 ] نالوا ذلك ، ولم يبالوا بتعليم ذلك للناس وتعظيمهم له لرئاسة أو مال ينالونه ، وإن كانوا قد علموا الكفر والشرك ودعوا إليه ، بل حصل عندهم ريب وشك فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم واعتقاد أنه خاطب الجمهور بما لا حقيقة له في الباطن للمصلحة ، كما يقول ذلك من يقوله من الملاحدة الباطنية ، ودخل في رأي هؤلاء طائفة من هؤلاء وهؤلاء ، وهذا مما ضاهوا به فارس والروم .
فإن فارس كانت تعظم الأنوار ، وتسجد للشمس وللنار ، والروم كانوا قبل النصرانية مشركين : يعبدون الكواكب والأصنام ، فهؤلاء شر من الذين أشبهوا اليهود والنصارى ; فإن هؤلاء ضاهوا أهل الكتاب فيما بدل أو نسخ وهؤلاء ضاهوا من لا كتاب له .
وقال رحمه الله تعالى فالنفوس مفطورة على علم ضروري موجود فيها بالخالق الذي خلق السموات ، وأنه خلق السموات والأرض ليس شيء منها خلق الناس ، كما قال موسى لفرعون - لما قال له : { وما رب العالمين } { قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين } وقال : { فمن ربكما يا موسى } { قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } .