وإذا ظهر المعنى تبين فصل الخطاب في وجوب ; فإن فيه نزاعا مشهورا بين العلماء . قيل : ليس بواجب ; للتخير . وقيل : بل هو واجب والتخيير منسوخ بقوله : { الحكم بين المعاهدين من أهل الحرب : كالمستأمن والمهادن والذمي وأن احكم بينهم بما أنزل الله } .
قال الأولون : أما الأمر هنا أن يحكم بما أنزل الله إذا حكم : فهو أمر بصفة الحكم ; لا بأصله كقوله : { وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط } وقوله : { وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } .
وهذا أصوب ; فإن النسخ لا يكون بمحتمل . فكيف بمرجوح . وقيل : يجب في مظالم العباد ; دون غيرها . والخلاف في ذلك مشهور في [ ص: 198 ] مذهب وغيره من الأئمة . الإمام أحمد
وحقيقة الآية : إن كان مستجيبا لقوم آخرين لم يأتوه لم يجب عليه الحكم بينهم كالمعاهد : من المستأمن وغيره الذي يرجع إلى أمرائه وعلمائه في دراهم وكالذمي الذي إن حكم له بما يوافق غرضه وإلا رجع إلى أكابرهم وعلمائهم فيكون متخيرا بين الطاعة لحكم الله ورسوله وبين الإعراض عنه . وأما من لم يكن إلا مطيعا لحكم الله ورسوله ليس عنه مندوحة كالمظلوم الذي يطلب نصره من ظالمه وليس له من ينصره من أهل دينه . فهذا : ليس في الآية تخيير . وإذا كان عقد الذمة قد أوجب نصره من أهل الحرب فنصره ممن يظلمه من أهل الذمة أولى أن يوجب ذلك .
وكذلك لو لم يجب عليه الحكم بينهم . وهذا من حجة كثير من كان المتحاكم إلى الحاكم والعالم : من المنافقين الذين يتخيرون بين القبول من الكتاب والسنة وبين ترك ذلك السلف الذين كانوا لا يحدثون المعلنين بالبدع بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم .
ومن هذا الباب : من لا يكون قصده في استفتائه وحكومته الحق بل غرضه من يوافقه على هواه كائنا من كان سواء كان صحيحا أو باطلا . فهذا سماع لغير ما بعث الله به رسوله ; فإن الله إنما بعث رسوله [ ص: 199 ] بالهدى ودين الحق فليس على خلفاء رسول الله أن يفتوه ويحكموا له كما ليس عليهم أن يحكموا بين المنافقين والكافرين المستجيبين لقوم آخرين لم يستجيبوا لله ورسوله .