وأما ما حكاه عن الذي سماه الشيخ المحقق العالم الرباني الغوث السابع ( في الشمعة من أنه قال : اعلم أن العالم بمجموعه حدقة عين الله التي لا تنام إلخ . فالكلام عليه من وجوه .
( أحدها ) أن تسمية قائل مثل هذا المقال : محققا وعالما وربانيا عين الضلالة والغواية بل هذا كلام لا تقوله لا اليهود ولا النصارى ولا عباد الأوثان .
فإن كان الذي قاله مسلوب العقل : كان حكمه حكم غيره في أن الله رفع عنه القلم وإن كان عاقلا فجرأة على الله الذي يقول : { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا } { لقد جئتم شيئا إدا } { تكاد السماوات يتفطرن منه } إلى آخر الآيات . وقال : { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون } { لا يسبقونه بالقول } إلى قوله : { الظالمين } وقال { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم } إلى قوله : { وإليه المصير } .
[ ص: 194 ] فإذا كان هذا قوله فيمن يقول : إنهم أبناؤه وأحباؤه فكيف قوله فيمن يقول : إنهم أهداب جفنه تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا .
( الوجه الثاني ) أن هذا الشيخ الضال - الذي قال هذا الكفر والضلال - قد نقض آخر كلامه بأوله فإن لفظ العين : مشترك بين نفس الشيء وبين العضو المبصر وبين مسميات أخر وإذا قال بعين الشيء فهو من العين التي بمعنى النفس أي تميز بنفسه عن غيره فإذا قال : إن العالم بمجموعه حدقة عين الله - التي لا تنام - فالعين هنا بمعنى البصر .
ثم قال في آخر كلامه : ونعني بعين الله ما يتعين الله فيه ; فهذا من العين بمعنى النفس وهذه العين ليس لها حدقة ولا أجفان وإنما هذا بمنزلة من قال : نبعت العين وفاضت وشربنا منها واغتسلنا ووزنتها في الميزان ; فوجدتها عشرة مثاقيل ; وذهبها خالص . وسبب هذا : أنه كان كثيرا ما كان يتصرف في حروف بلا معان .
( الوجه الثالث ) أنه تناقض من وجه آخر ; فإنه إذا كان العالم هو حدقة العين ; فينبغي أن يكون قد بقي من الله بقية الأعضاء غير العين فإذا قال في آخر كلامه : والله هو نور العين كان الله جزءا من العين أو صفة له فقد جعل - في أول كلامه - العالم جزءا من الله وفي آخر كلامه جعل الله جزءا من العالم وكل من القولين كفر بل هذا أعظم من كفر الذين ذكرهم الله بقوله : { وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين } { أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين } ؟ فإذا كان الله كفر من جعل له من عباده جزءا فكيف من جعل عباده تارة جزءا منه وتارة جعله هو جزءا منهم .
فلعن الله أرباب هذه المقالات وانتصر لنفسه ولكتابه ولرسوله ولعباده المؤمنين منهم .
( الوجه الرابع ) أنه تناقض من جهة أخرى فإنه إذا قال : ; فقد جعله متعينا في جميع العالم ; فإذا قال بعدها وهو نور العين بقيت سائر أجزاء العين ; من الأجفان ; والأهداب والسواد ; والبياض لم يتعين فيها فقد جعله متعينا فيها غير متعين فيها . العين ما يتعين الله فيه والعالم كله حدقة عينه التي لا تنام
( الوجه الخامس ) أن نور العين : مفتقر إلى العين محتاج إليها لقيامه بها فإذا كان الله في العالم كالنور في العين ; وجب أن يكون محتاجا إلى العالم .
واعلم أن هذا القول يشبه قول الحلولية ; الذين يقولون : هو في العالم كالماء في الصوفة وكالحياة في الجسم ونحو ذلك ويقولون : هو بذاته في كل مكان ; وهذا قول قدماء الجهمية الذين كفرهم أئمة الإسلام وحكي عن الجهم أنه كان يقول : هو مثل هذا الهواء أو قال هو هذا الهواء .
وقوله أولا : هو حدقة عين الله يشبه قول الاتحادية فإن الاتحادية يقولون : هو مثل الشمعة التي تتصور في صور مختلفة وهي واحدة فهو عندهم الوجود ; واختلاف أحواله كاختلاف أحوال الشمعة .
[ ص: 196 ] ولهذا كان صاحب هذه المقالات : متخبطا لا يستقر عند المسلمين الموحدين المخلصين ولا هو عند هؤلاء الملاحدة الاتحادية من محققيهم العارفين .
فإن هؤلاء كلهم من جنس النصيرية والإسماعيلية مقالات هؤلاء في الرب من جنس مقالات أولئك وأولئك فيهم المتمسك بالشريعة وفيهم المتخلي عنها وهؤلاء كذلك لكن أولئك أحذق في الزندقة وهم يعلمون أنهم معطلون مثل فرعون وهؤلاء جهال يحسبون أنهم يحسنون صنعا .
( الوجه السادس ) قوله : أن العلويات والسفليات لو ارتفعت : لانبسط نور الله تعالى : بحيث لا يظهر فيه شيء أصلا ; وهذا كلام مجمل ولا ريب أن قائل هذه المقالة من المذبذبين بين الكافرين والمؤمنين لا هو من المؤمنين ولا من الاتحادية المحضة ; لكنه قد لبس الحق بالباطل وذلك أن الاتحادية يقولون إن عين السموات والأرض لو زالت لعدم الله وهذا اللفظ يصرح به بعضهم وأما غالبهم فيشيرون إليه إشارة وعوامهم لا يفهمون هذا من مذهب الباقين فإن هؤلاء من جنس القرامطة والباطنية وأولئك إنما يصلون إلى البلاغ الأكبر الذي هو آخر مراتب خواصهم .
ولهذا حدثني بعض أكابر هؤلاء الاتحادية : عن صاحب هذه المقالة أنه كان يقول : ليس بين التوحيد والإلحاد إلا فرق لطيف . فقلت له : هذا من أبطل الباطل بل ليس بين مذهبين من الفرق أعظم مما بين التوحيد والإلحاد وهذا قاله بناء على هذا الخلط واللبس الذي خلطه مثل [ ص: 197 ] قوله إن العلويات والسفليات لو ارتفعت لانبسط نور الله بحيث لا يظهر فيه شيء .
فيقال له : إذا ارتفعت العلويات والسفليات : فما تعني بانبساطه ؟ أتعني تفرقه وعدمه كما يتفرق نور العين عند عدم الأجفان ؟ أم تعني أنه ينبسط شيء موجود ؟ وما الذي ينبسط حينئذ ؟ أهو نفس الله أم صفة من صفاته ؟ وعلى أي شيء ينبسط ؟ وما الذي يظهر فيه أو لا يظهر ؟ .
فإن عنيت الأول وهو مقتضى أول كلامك لأنك قلت : وإنما قلنا إن العلويات والسفليات أجفان عين الله لأنهما يحافظان على ظهور النور فلو قطعت أجفان عين الإنسان ; لتفرق نور عينه وانتشر بحيث لا يرى شيئا أصلا فكذلك العلويات والسفليات لو ارتفعت : لانبسط نور الله بحيث لا يظهر فيه شيء أصلا .
وقد قلت : إن الله هو نور العين والروح الأعظم بياضها والنفس الكلية سوادها .
ومعلوم أن نور العين على ما ذكرته بشرط وجوده هو الأجفان فإذا ارتفع الشرط ارتفع المشروط فيكون العالم عندك شرطا في وجود الله فإذا ارتفع العالم ارتفعت حقيقة الله لانتفاء شرطه وإن أثبت له ذاتا غير العالم فهذا أحد قولي الاتحادية .
فإنهم تارة يجعلون وجود الحق : هو عين وجود المخلوقات ليس غيرها [ ص: 198 ] وعلى هذا فلا يتصور وجوده مع عدم المخلوقات وهذا تعطيل محض للصانع وهو قول القونوي والتلمساني وهو قول صاحب الفصوص في كثير من كلامه وتارة يجعلون له وجودا قائما بنفسه ثم يجعلون نفس ذلك الوجود هو أيضا وجود المخلوقات بمعنى أنه فاض عليها ; وهذا أقل كفرا من الأول وإن كان كلاهما من أغلظ الكفر وأقبحه .
وفي كلام صاحب الفصوص وغيره - في بعض المواضع - ما يوافق هذا القول وكذلك كلام هذا فإنه قد يشير إلى هذا المعنى .
ثم مع ذلك : هل يجعلون وجوده مشروطا بوجود العالم فيكون محتاجا إلى العالم أو لا يجعلون ؟ قد يقولون هذا وقد يقولون هذا .
( السابع ) أنهم يمدحون الضلال والحيرة والظلم والخطأ والعذاب الذي عذب الله به الأمم ويقلبون كلام الله وكلام رسوله قلبا يعلم فساده بضرورات العقول مثل قول صاحب الفصوص : لو أن نوحا ما جمع لقومه بين الدعوتين لأجابوه فدعاهم جهارا ثم دعاهم إسرارا - إلى أن قال : وذكر عن قومه أنهم تصاموا عن دعوته لعلمهم بما يجب عليهم من إجابة دعوته فعلم العلماء بالله ما أشار إليه نوح في حق قومه ; من الثناء عليهم بلسان الذم وعلم أنهم إنما لم يجيبوا دعوته لما فيها من الفرقان والأمر قرآن لا فرقان . ومن أقيم في القرآن : لا يصغى إلى الفرقان ; وإن كان فيه .
فيمدحون ويحمدون ما ذمه الله ولعنه ونهى عنه ويأتون من الإفك [ ص: 199 ] والفرية على الله والإلحاد في أسماء الله وآياته بما : { تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا } كقول صاحب الفصوص في فص نوح .
{ مما خطيئاتهم أغرقوا } فهي التي خطت بهم فغرقوا في بحار العلم بالله وهو الحيرة . { فأدخلوا نارا } في عين الماء في المحمدتين { وإذا البحار سجرت } سجرت التنور إذا أوقدته { فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا } فكان الله عين أنصارهم فهلكوا فيه إلى الأبد فلو أخرجتهم إلى السيف سيف الطبيعة : لنزلوا عن هذه الدرجة الرفيعة وإن كان الكل لله وبالله بل هو الله .
{ وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين } الذين استغشوا ثيابهم وجعلوا أصابعهم في آذانهم طلبا للستر لأنه دعاهم ليغفر لهم والغفر الستر { ديارا } أحدا حتى تعم المنفعة كما عمت الدعوة { إنك إن تذرهم } أي تدعهم وتتركهم { يضلوا عبادك } أي يحيروهم ويخرجوهم من العبودية إلى ما فيهم من أسرار الربوبية فينظروا أنفسهم أربابا بعدما كانوا عند أنفسهم عبيدا فهم العبيد الأرباب { ولا يلدوا } أي ما ينتجون ولا يظهرون { إلا فاجرا } أي مظهرا ما ستر { كفارا } أي ساترا ما ظهر بعد ظهوره فيظهرون ما ستر ثم يسترونه بعد ظهوره فيحار الناظر ولا يعرف قصد الفاجر في فجوره ولا الكافر في كفره والشخص واحد { رب اغفر لي } أي استرني واستر مراحلي فيجهل مقامي وقدري كما جهل قدرك في قولك [ ص: 200 ] { وما قدروا الله حق قدره } { ولوالدي } أي من كنت نتيجة عنهما وهما العقل والطبيعة { ولمن دخل بيتي } أي : قلبي { مؤمنا } مصدقا بما يكون فيه من الأخبار الإلهية وهو ما حدثت به أنفسها { وللمؤمنين } من العقول { والمؤمنات } من النفوس { ولا تزد الظالمين } من الظلمات أهل الغيب المكتنفين داخل الحجب الظلمانية { إلا تبارا } أي هلاكا فلا يعرفون نفوسهم لشهودهم وجه الحق دونهم .
وهذا كله : من أقبح تبديل كلام الله وتحريفه ولقد ذم الله أهل الكتاب في القرآن على ما هو دون هذا فإنه ذمهم على أنهم حرفوا الكلم عن مواضعه وأنهم : { يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا } { ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } .
وهؤلاء قد حرفوا كلام الله عن مواضعه أقبح تحريف وكتبوا كتب النفاق والإلحاد بأيديهم وزعموا أنها من عند الله .
تارة يزعمون أنهم يأخذون من حيث يأخذ الملك الذي يوحي به إلى النبي فيكونون فوق النبي بدرجة .
وتارة يزعمون أنهم يأخذون من حيث يأخذ الله فيكون أحدهم في علمه بنفسه بمنزلة علم الله به ; لأن الأخذ من معدن واحد .
وتارة يزعم أحدهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه في منامه هذا النفاق [ ص: 201 ] العظيم والإلحاد البليغ وأمره أن يخرج به إلى أمته وأنه أبرزه كما حده له رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقصان وكان جماعة من الفضلاء - حتى بعض من خاطبني فيه وانتصر له - يرى أنه كان يستحل الكذب ويختارون أن يقال : كان يتعمد الكذب وأن ذلك هو أهون من الكفر ثم صرحوا بأن مقالته كفر وكان ممن يشهد عليه بتعمد الكذب غير واحد من عقلاء الناس وفضلائهم ; من المشايخ والعلماء .
ومعلوم أن هذا من أبلغ الكذب على الله ورسوله وأنه من أحق الناس بقوله : { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء } وكثير من المتنبئين الكذابين - وأمثاله - لم يبلغ كذبهم وافتراؤهم إلى هذا الحد . كالمختار بن أبي عبيد
بل مسيلمة الكذاب لم يبلغ كذبه وافتراؤه إلى هذا الحد وهؤلاء كلهم كان يعظم النبي صلى الله عليه وسلم ويقر له بالرسالة ; لكن كان يدعي أنه رسول آخر ولا ينكر وجود الرب ولا ينكر القرآن في الظاهر وهؤلاء جحدوا الرب وأشركوا به كل شيء وافتروا هذه الكتب التي قد يزعمون أنها أعظم من القرآن ويفضلون نفوسهم على النبي صلى الله عليه وسلم من بعض الوجوه كما قد صرح به صاحب الفصوص عن خاتم الأولياء .
وحدثني الثقة عن الفاجر التلمساني أنه كان يقول : القرآن كله شرك ليس فيه توحيد وإنما التوحيد في كلامنا .
[ ص: 202 ] وأما الضلال والحيرة : فما مدح الله ذلك قط ولا قال النبي صلى الله عليه وسلم { زدني فيك تحيرا } ولم يرو هذا الحديث أحد من أهل العلم بالحديث ولا هو في شيء من كتب الحديث ولا في شيء من كتب من يعلم الحديث ; بل ولا من يعرف الله ورسوله وكذلك احتجاجه بقوله : { كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا } .
وإنما هذا حال المنافقين المرتدين ; فإن الضلال والحيرة مما ذمه الله في القرآن قال الله تعالى في القرآن : { قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران } ؟ الآية .
وهكذا يريد هؤلاء الضالون ; المتحيرون ; أن يفعلوا بالمؤمنين يريدون أن يدعوا من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم وهي المخلوقات والأوثان والأصنام وكل ما عبد من دون الله ويريدون أن يردوا المؤمنين على أعقابهم يردونهم عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت ويصيروا حائرين ضالين { كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا } . وقال تعالى : { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم } إلى قوله : { يعمهون } أي يحارون . وقال تعالى : { وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون } . وقال تعالى : { اهدنا الصراط المستقيم } { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } فأمر بأن [ ص: 203 ] نسأله هداية الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم المغايرين للمغضوب عليهم وللضالين .
وهؤلاء يذمون الصراط المستقيم ويمدحون طريق أهل الضلال والحيرة مخالفة لكتب الله ورسله ولما فطر الله عليه عباده من العقول والألباب .