[ ص: 2456 ] القول في تأويل قوله تعالى:
[105] وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون
وكذلك نصرف الآيات أي: نوردها على وجوه كثيرة في سائر المواضع، لتكمل الحجة على المخالفين وليقولوا في ردها: درست أي: قرأت على غيرك، وتعلمت منه. وحفظت بالدرس أخبار من مضى. كقولهم: فهي تملى عليه بكرة وأصيلا
يقال: درس الكتاب يدرسه دراسة، إذا أكثر قراءته وذلله للحفظ. قال وليقولوا يعني: أهل ابن عباس: مكة حين تقرأ عليهم القرآن (درست) يعني: تعلمت من يسار وخير، وكانا عبدين من سبي الروم. ثم قرأت علينا تزعم أنه من عند الله! وقال الفراء: معناه تعلمت من اليهود. كذا في "اللباب".
وقرئ: "دارست" بالألف وفتح التاء. أي: دارست غيرك ممن يعلم الأخبار الماضية. كقولهم: إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه
ويقرأ: "درست" بفتح الدال والراء والسين وسكون التاء. أي: مضت وقدمت وتكررت على الأسماع، كما قالوا: أساطير الأولين . وهذه القراءات الثلاث [ ص: 2457 ] متواترة. وقرئ في الشواذ: "درست" ماضيا مجهولا. أي: تليت وعفيت تلك الآيات. وقرئ: "درست" مشددا معلوما. وتشديده للتكثير أو للتعدية. أي: درست غيرك الكتب. وقرئ مشددا مجهولا. وقرئ: "دورست" بضم الراء، والإسناد للآيات مبالغة في محوه أو تلاوته؛ لأن (فعل) المضموم للطبائع والغرائز. وقرأ رضي الله عنه: (درس) وفاعله ضمير النبي صلى الله عليه وسلم، أو الكتاب، إن كان بمعنى انمحى. و (درسن) بنون الإناث مخففا ومشددا. وقرئ: (دارسات) بمعنى قديمات، أو بمعنى ذات درس أو دروس، ك: عيشة راضية . وارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف. أي: هي دارسات. أبي
ولنبينه أي: القرآن، وإن لم يجر له ذكر لكونه معلوما. أو الآيات، لأنها في معنى القرآن. لقوم يعلمون أي: الحق فيتبعونه، والباطل فيجتنبونه.
[ ص: 2458 ] تنبيهان:
الأول: قيل: اللام الثانية حقيقية، والأولى لام العاقبة والصيرورة. أي: لتصير عاقبة أمرهم، إلى أن يقولوا: درست، كهي في قوله تعالى: فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا وهم لم يلتقطوه للعداوة، وإنما التقطوه ليصير لهم قرة عين، ولكن صارت عاقبة أمرهم إلى العداوة. فكذلك الآيات صرفت للتبيين، ولم تصرف ليقولوا: درست. ولكن حصل هذا القول بتصريف الآيات، كما حصل التبيين، فشبه به.
قال الخفاجي: وجوز أن يكون على الحقيقة وغيره؛ لأن نزول الآيات لإضلال الأشقياء، وهداية السعداء. قال تعالى: أبو البقاء يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وقال الرازي: حمل اللام على العاقبة بعيد؛ لأنه مجاز. وحمله على لام الغرض حقيقة، والحقيقة أقوى من المجاز. وإن المراد منه عين المذكور في قوله تعالى: يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا قال: ومما يؤكد هذا التأويل قوله: ولنبينه لقوم يعلمون يعني: إنا ما بيناه إلا لهؤلاء. فأما الذين لا يعلمون، فما بينا هذه الآيات لهم، وإذ لم يكن بيانا لهم ثبت جعله ضلالا لهم. انتهى.
وقيل: هذه اللام لام الأمر، ويؤيده أنه قرئ بسكونها، كأنه قيل: وكذلك نصرف الآيات، وليقولوا هم ما يقولون، فإنه لا احتفال بهم، ولا اعتداد بقولهم. وهو أمر معناه الوعيد والتهديد وعدم الاكتراث بقولهم.
[ ص: 2459 ] وفيه نظر؛ لأن ما بعده يأباه، إذ اللام في (لنبينه) نص في أنها لام كي. وأما تسكين اللام في القراءة الشاذة، فلا دليل فيه، لاحتمال أنها خففت لإجرائها مجرى كبد، وكونها معترضة. و (لنبينه) متعلق بمقدر معطوف على ما قبله، وإن صححه لا يخرجه عن كونه خلاف الظاهر. كذا في "العناية".
الثاني: قال الشريف قدس سره: أفعاله تعالى يتفرع عليها حكم ومصالح متقنة هي ثمراتها، وإن لم تكن عللا غائية لها، حيث لولاها لم يقدم الفاعل عليها. ومن أهل السنة من وافق المعتزلة في التعليل والغرض الراجع منفعته إلى العباد، وادعى أنه مذهب الفقهاء والمحدثين.
إذا عرفت هذا، فاعلم أن حقيقة التعليل والغرض عند أهل السنة بيان ما يدل على المصلحة المترتبة على الفعل. وأما تفسيره بالباعث الذي لولاه لم يقدم الفاعل على الفعل، أو عدم اشتراط ذلك، فهو من تحقيقات المتكلمين، لا تعلق له باللغة. وأما عند أهل اللغة فهو حقيقة في ذلك مطلقا، والفرق بينها وبين لام العاقبة، أن لام العاقبة ما تدخل على ما يترتب على الفعل وليس مصلحة. وهل يشترط فيها أن يظنه المتكلم غير مترتب أم لا، حتى يكون في كلامه تعالى من غير حكاية أم لا، فيه خلاف. كذا في "العناية".