القول في تأويل قوله تعالى :
[ 111 ] لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون
لن يضروكم إلا أذى أي : بألسنتهم لا يبالى به من طعن وتهديد : وإن يقاتلوكم [ ص: 938 ] أي : يوما من الأيام : يولوكم الأدبار يعني منهزمين مخذولين : ثم لا ينصرون يعني لا يكون لهم النصر عليكم ، بل تنصرون عليهم . وقد صدق الله ، ومن أصدق من الله قيلا ؟ لم يقاتلوا في موطن إلا كانوا كذلك . قال فإنهم يوم خيبر أذلهم الله ، وأرغم أنوفهم ، وكذلك من قبلهم من يهود ابن كثير : المدينة : بني قينقاع ، وبني النضير ، وبني قريظة ، كلهم أذلهم الله . وكذلك النصارى بالشام ، كسرهم الصحابة في غير ما موطن وسلبوهم ملك الشام أبد الآبدين ودهر الداهرين . ولا تزال عصابة الإسلام قائمة بالشام حتى ينزل عيسى ابن مريم ، وهم كذلك ، ويحكم بملة الإسلام ، وشرع محمد عليه أفضل الصلاة والسلام ، فيكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ولا يقبل إلا الإسلام .
لطائف :
قال : فإن قلت : هلا جزم المعطوف في قوله : الزمخشري ثم لا ينصرون ؟
قلت : عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الإخبار ابتداء ، كأنه قيل : ثم أخبركم أنهم لا ينصرون .
فإن قلت : فأي فرق بين رفعه وجزمه في المعنى ؟
قلت : لو جزم لكان نفي النصر مقيدا بمقاتلتهم ، كتولية الأدبار ، وحين رفع كان نفي النصر وعدا مطلقا كأنه قال : ثم شأنهم وقصتهم التي أخبركم عنها وأبشركم بها بعد التولية أنهم مخذولون منتف عنهم النصر والقوة لا ينهضون بعدها بجناح ، ولا يستقيم لهم أمر ، وكان كما أخبر من حال بني قريظة والنضير وبني قينقاع ويهود خيبر .
فإن قلت : فما الذي عطف عليه هذا الخبر ؟
قلت : جملة الشرط والجزاء . كأنه قيل : أخبركم أنهم إن يقاتلوكم ينهزموا ، ثم أخبركم أنهم لا ينصرون .
فإن قلت : فما معنى التراخي في ثم ؟
[ ص: 939 ] قلت : التراخي في المرتبة ، لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليتهم الأدبار .
قال الناصر بن المنير : وهذا من الترقي في الوعد عما هو أدنى إلى ما هو أعلى ، لأنهم وعدوا بتولية عدوهم الأدبار عند المقابلة ، ثم ترقى الوعد إلى ما هو أتم في النجاح من أن هؤلاء لا ينصرون مطلقا ، ويزيد هذا الترقي بدخول ثم دون الواو . فإنها تستعار ههنا للتراخي في الرتبة لا في الوجود ، كأنه قال : ثم ههنا ما هو أعلى في الامتنان ، وأسمح في رتب الإحسان ، وهو أن هؤلاء قوم لا ينصرون البتة - والله أعلم - .