القول في تأويل قوله تعالى:
[6] أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى
أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم أي: من سعتكم التي تجدون، وطاقتكم ومقدرتكم ولا تضاروهن أي: لا تستعملوا معهن الضرار لتضيقوا عليهن أي: في المسكن ببعض الأسباب، من إنزال من لا يوافقهن، أو بشغل مكانهن، أو غير ذلك، حتى تضطروهن إلى الخروج أو الافتداء.
تنبيه:
قال في "الإكليل": في الآية وجوب كلهن، وللبوائن، لتقدم سكنى الرجعيات، ولقوله بعده: السكنى للمطلقات وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن فإنه خاص بالبوائن. وفيه أن الإسكان يعتبر بحال الزوج، وتحريم المضارة بها، وإلجائها إلى الخروج.
وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن قال : أي: وإن كان نساؤكم المطلقات أولات حمل وكن بائنات منكم، فأنفقوا عليهن في عدتهن منكم حتى يضعن حملهن. ابن جرير
[ ص: 5842 ] فعن في الآية قال: هذه المرأة يطلقها زوجها، فيبت طلاقها وهي حامل، فيأمره الله أن يسكنها، وينفق عليها حتى تضع، وإن أرضعت فحتى تفطم، وإن أبان طلاقها، وليس بها حبل، فلها السكنى حتى تنقضي عدتها، ولا نفقة. وكذلك المرأة يموت عنها زوجها فإن كانت حاملا أنفق عليها من نصيب ذي بطنها إذا كان ميراث، وإن لم يكن ميراث أنفق عليها الوارث حتى تضع وتفطم ولدها، كما قال الله عز وجل: ابن عباس وعلى الوارث مثل ذلك فإن لم تكن حاملا فإن نفقتها كانت من مالها.
ثم قال : وقال آخرون عنى بقوله: ابن جرير وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن كل مطلقة، ملك زوجها رجعتها أو لم يملك، وممن قال ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنهما. وعبد الله بن مسعود
فعن إبراهيم قال: كان عمر وعبد الله يجعلان للمطلقة ثلاثا، السكنى والنفقة والمتعة. وكان إذا ذكر عنده حديث عمر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت قيس . قال: ما كنا لنجيز في ديننا شهادة امرأة. «أمرها أن تعتد في غير بيت زوجها»
ثم قال : والصواب من القول في ذلك عندنا أن لا نفقة للمبتوتة إلا أن تكون حاملا؛ لأن الله جل ثناؤه جعل النفقة بقوله: ابن جرير وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن للحوامل دون غيرهن من البائنات من أزواجهن، ولو كان البوائن من الحوامل وغير الحوامل في الواجب من النفقة على أزواجهن سواء، لم يكن لخصوص أولات الأحمال بالذكر في هذا الموضع وجه مفهوم، إذ هن وغيرهن في ذلك سواء. وفي خصوصهن بالذكر دون غيرهن أدل الدليل على أن لا نفقة لبائن، إلا أن تكون حاملا، وبالذي قلنا صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
: حدثتني أبو سلمة بن عبد الرحمن أخت فاطمة بنت قيس [ ص: 5843 ] أن الضحاك بن قيس: أبا عمرو المخزومي طلقها ثلاثا، فأمر لها بنفقة فاستقلتها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن. فانطلق في نفر، من خالد بن الوليد بني مخزوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عند ، فقال: يا رسول الله! إن ميمونة طلق أبا عمرو ثلاثا، فهل لها من نفقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس لها نفقة» فأرسل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن انتقلي إلى بيت فاطمة ، وأرسل إليها أن لا تسبقيني بنفسك. ثم أرسل إليها أن أم شريك يأتيها المهاجرون الأولون، فانتقلي إلى أم شريك ابن مكتوم ، فإنك إذا وضعت خمارك لم يرك. فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد . انتهى. قال
وقال الناصر في «الانتصاف»: لا يخفى على المتأمل لهذه الآي أن المبتوتة غير الحامل، لا نفقة لها؛ لأن الآي سيقت لبيان الواجب، فأوجب السكنى لكل معتدة تقدم ذكرها، ولم يوجب سواها. ثم استثنى الحوامل فخصهن بإيجاب النفقة لهن حتى يضعن حملهن، وليس بعد هذا البيان بيان. والقول بعد ذلك بوجوب حاملا أو غير حامل، لا يخفى منافرته لنظم الآية. النفقة لكل معتدة مبتوتة،
نصر مذهب والزمخشري فقال: فائدة تخصيص الحوامل بالذكر أن الحمل ربما طال أمده، فيتوهم متوهم أن النفقة لا تجب بطوله فخصت بالذكر تنبيها على قطع هذا الوهم. وغرض أبي حنيفة بذلك أن يحمل التخصيص على هذه الفائدة كيلا يكون له مفهوم في إسقاط النفقة لغير الحوامل؛ لأن أبا حنيفة يسوي بين الجميع في وجوب النفقة. انتهى. الزمخشري
وفي "الإكليل": في الآية وجوب حتى تنقضي عدتها. ومفهومه أن غير الحامل لا نفقة لها. واستدل بعموم الآية من أوجبها للحامل المتوفى عنها. انتهى. الإنفاق على البائن الحامل
فإن أرضعن لكم يعني: نساءكم البوائن منكم فآتوهن أجورهن أي: على رضاعهن وأتمروا بينكم بمعروف أي: ليقبل بعضكم من بعض ما أمر به من معروف، يعني: المجاملة والمسامحة في الإرضاع والأجر. والخطاب للآباء والأمهات.
[ ص: 5844 ] تنبيه:
في "الإكليل": فيها أن الأم إذا طلبت إرضاعه بأجرة مثل، وجب على الأب دفعها إليها، وليس له أن يسترضع غيرها. وفيه دليل على أن الأم أولى بالحضانة.
قال وفيه دلالة على أن الأجرة إنما تستحق بالفراغ من العمل. انتهى. إلكيا:
وفي قوله:
" بمعروف " طلب أن لا يماكس الأب، ولا تعاسر الأم؛ لأنه ولدهما معا، وهما شريكان فيه، وفي وجوب الإشفاق عليهن. -قاله -. الزمخشري
وإن تعاسرتم أي: ضيق بعضكم على الآخر بالمشاحة في الأجرة، أو طلب الزيادة ونحوه، فسترضع له أخرى قال : أي: فلا سبيل له عليها، وليس له إكراهها على إرضاعه، ولكنه يستأجر للصبي مرضعة غير أمه البائنة منه. ابن جرير
وقال : أي: فستوجد، ولا تعوز مرضعة غير الأم ترضعه. وفيه طرف من معاتبة الأم على المعاسرة، كما تقول لمن تستقضيه حاجة فيتوانى: سيقضيها غيرك. تريد: لن تبقى غير مقضية وأنت ملوم. انتهى. الزمخشري
قال الناصر: وخص الأم بالمعاتبة؛ لأن المبذل من جهتها هو لبنها لولدها، وهو غير متمول ولا مضنون به في العرف، وخصوصا في الأم على الولد، ولا كذلك المبذول من جهة الأب، فإنه المال المضنون به عادة، فالأم إذا، أجدى باللوم، وأحق بالعتب. انتهى.
وفيه أيضا إشارة إلى معاتبة الأب أيضا، كما حققه بعضهم، وذلك أن الأب لما أسقط عن درجة الخطاب، وبين أن معاسرته لا تجدي، إذ لا بد من مرضعة أخرى بأجر، وهذه أشفق منها، كان في حكم المعاتب المذكور في الجواب. وبه يندفع ما يقال: إن المعاسرة فعل الأب والأم، فكيف يخص الأم بالذكر في الجزاء. وحاصله أنهما مذكوران فيه، إلا أن الأم مصرح بها، والأب مرموز إليه. وتقدير يشير إليه أيضا. ابن جرير
[ ص: 5845 ] تنبيه:
في "الإكليل": تدل على أن حيث وجد غيرها، وقبل الصبي ثديها، وإلا أجبرت عليه. الأم لا تجبر على الرضاع
قال والآية أصل في ابن العربي: خلافا لمن أوجبها عليهما معا. وجوب نفقة الولد على الأب،