القول في تأويل قوله تعالى:
[66] بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون
بل ادارك علمهم في الآخرة قال فيه وجهان: أحدهما: أن في على بابها، وادارك وإن كان ماضيا لفظا، فهو مستقبل معنى، لأنه كائن قطعا. كقوله: السمين: أتى أمر الله
وعلى هذا فـ(في) متعلق بـ(ادارك).
والثاني: أن (في) بمعنى الباء. أي: بالآخرة.
وعلى هذا فيتعلق بنفس علمهم. كقولك: (علمي بزيد كذا)، انتهى.
والوجه الثاني على الاستفهام. أي: بل هل ادارك علمهم فيها، أي: بلغ وانتهى؟ كلا. وقد قرئ: (بل اءدرك) بهمزتين، (بل آءدرك) بألف بينهما، (أم أدرك) و(أم تدارك).
قال الرازي: وهي (أم) التي بمعنى (بل) والهمزة. فالمعنى على الاستفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم بها، وأنهم لم يبرحوا في حضيض الجهالة بحقيتها، مع ما يتلى عليهم من أدلة ثبوتها.
وقد جنح إلى الكلام على تقدير الاستفهام، السيوطي والمهايمي. وذهب غيرهما إلى إبقاء (بل) على أصلها من الإضراب الانتقالي. وقرروه بما فيه خفاء ودقة ويبعده ما ذكرنا [ ص: 4682 ] من القراءات الصريحة في الاستفهام. وهي مما يرجع إليها إذا اشتبه المقام. كما تقرر في قواعد التفسير: بل هم في شك منها أي: مرية، مع تقرير ما يزيله ويكشف غشاوته: بل هم منها عمون أي: في عماية وجهل كبير.
قال : فإن قلت: هذه الاضطرابات الثلاثة ما معناها؟ قلت: ما هي إلا تنزيل لأحوالهم: وصفهم أولا بأنهم لا يشعرون وقت البعث. ثم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة. ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية، فلا يزيلونه. والإزالة مستطاعة. ألا ترى أن من لم يسمع اختلاف المذاهب وتضليل أربابها بعضهم لبعض، كان أمره أهون ممن سمع بها وهو جاثم، لا يشخص به طلب التمييز بين الحق والباطل؟ ثم بما هو أسوأ حالا، وهو العمى وأن يكون مثل البهيمة قد عكف همه على بطنه، وفرجه، لا يخطر بباله حقا ولا باطلا ولا يفكر في عاقبة. وقد جعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه. فلذلك عداه بـ(من) دون (عن) لأن الكفر بالعاقبة والجزاء، هو الذي جعلهم كالبهائم لا يتدبرون ولا يتبصرون. انتهى. الزمخشري