القول في تأويل قوله تعالى :
[2] الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين .
الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة شروع في تفصيل ما ذكر من الآيات البينات وبيان أحكامها . أي : كل من زنى من الرجال والنساء ، فأقيموا عليه هذا الحد . وهو أن يجلد ، أي : يضرب على جلده مائة جلدة ، عقوبة لما صنع : ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله أي : رقة ورحمة في طاعته فيما أمركم به ، من إقامة الحد عليهما ، على ما ألزمكم به : إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر أي : تصدقون بالله ربكم وباليوم الآخر ، وأنكم مبعوثون لحشر القيامة وللثواب والعقاب . فإن من كان بذلك مصدقا ، فإنه لا يخالف الله في أمره ونهيه ، خوف عقابه على معاصيه : وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين [ ص: 4427 ] أي : وليحضر جلدهما طائفة من أهل الإيمان بالله ورسوله ، قال : ابن جرير العرب تسمي الواحد فما زاد طائفة .
قال ابن تيمية عليه الرحمة : فأمر تعالى بعقوبتهما بحضور طائفة من المؤمنين . وذلك بشهادته على نفسه أو شهادة المؤمنين عليه . لأن . كما في الأثر : المعصية إذا ظهرت كانت عقوبتها ظاهرة (من أذنب سرا فليتب سرا . ومن أذنب علانية فليتب علانية ) ، وليس من الستر الذي يحبه الله ، كما في الحديث : فإذا أعلنت أعلنت عقوبتها بحسب العدل الممكن . ولهذا لم يكن للمعلن بالبدع والفجور غيبة . كما روي عن الحسن وغيره ، لأنه لما أعلن استحق العقوبة . وأدناها أن يذم عليها لينزجر ويكف الناس عنه وعن مخالطته . ولو لم يذكر إلا بما فيه لاغتر به الناس . فإذا ذكر انكف وانكف غيره عن ذلك وعن صحبته . قال « إن الخطيئة إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها . فإذا أعلنت ولم تنكر ، ضرت العامة » : أترغبون عن ذكر الفاجر؟ اذكروا بما فيه كي يحذره الناس . و(الفجور ) : اسم جامع لكل متجاهر بمعصية أو كلام قبيح ، يدل السامع له على فجور قلب قائله . ولهذا استحق الهجرة ، إذا أعلن ببدعة أو معصية ، أو فجور أو تهتك أو مخالطة لمن هذا حاله . بهذا لا يبالي بطعن الناس عليه . فإن هجره نوع تعزير له . فإذا أعلن السيئات ، أعلن هجره ، وإذا أسر أسر هجره ، إذ الهجرة هي الهجرة على السيئات وهجرة السيئات ، كقوله : الحسن والرجز فاهجر وقوله : واهجرهم هجرا جميلا وقوله : فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم وقد روي عن ; أن ابنه عمر عبد الرحمن لما شرب الخمر بمصر وذهب به [ ص: 4428 ] أخوه إلى أميرها ليحده ، جلده سرا ، فبعث إليه عمرو بن العاص ينكر عليه . ولم يعتد بذلك حتى أرسل إلى ابنه ، فأقدمه عمر المدينة وجلده علانية ، وعاش ابنه مدة ثم مرض ثم مات ولم يمت من الجلد ، ولا ضربه بعد الموت ، كما يزعمه الكذابون .
وقوله تعالى : ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله نهى تعالى عما يأمر به الشيطان في العقوبات عموما وفي الفواحش خصوصا . فإن هذا الباب مبناه على المحبة والشهوة ، والرأفة التي يزينها الشيطان بانعطاف القلوب على أهل الفواحش ، حتى يدخل كثير من الناس بسبب هذه الآفة في الدياثة ، إذا رأى من يهوى بعض المتصلين به ، أو يعاشره عشرة منكرة ولو كان ولده ، رق به وظن أن هذا من رحمة الخلق . وإنما ذلك دياثة ومهانة وعدم دين وإعانة على الإثم والعدوان . وترك للتناهي عن المنكر . وتدخل النفس به في القيادة التي هي أعظم من الدياثة كما دخلت عجوز السوء مع قومها ، في استحسان ما كانوا يتعاطونه من إتيان الذكران والمعاونة لهم على ذلك ، وكانت في الظاهر مسلمة على دين زوجها لوط ، وفي الباطن منافقة على دين قومها . لا تقلي عملهم كما قلاه لوط .
وكما فعل النسوة بيوسف . فإنهن أعن امرأة العزيز على ما دعته إلى فعل الفاحشة معها ولهذا قال : رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وذلك بعد قولهن : إنا لنراها في ضلال مبين ولا ريب أن محبة الفواحش مرض في القلب . فإن الشهوة توجب السكر كما قال تعالى : إنهم لفي سكرتهم يعمهون وفي الصحيحين ومن حديث : أبي هريرة إلخ فكثير من الناس يكون مقصوده بعض هذه الأنواع كالنظر والاستمتاع والمخاطبة . ومنهم من يرتقي إلى المس والمباشرة . ومنهم من يقبل وينظر . وكل ذلك حرام . « العينان تزنيان »
وقد ، بل نقيم عليهم الحد ، فكيف بما دونه من هجر ونهي [ ص: 4429 ] وتوبيخ وغير ذلك ؟ بل ينبغي شنآن الفاسقين وقلاهم على ما يتمتع به الإنسان من أنواع الزنى المذكورة في الحديث . والمحب ، وإن كان يحب النظر والاستمتاع بصورة المحبوب وكلامه ، فليس دواؤه في ذلك ، لأنه مريض . والمريض إذا اشتهى ما يضره أو جزع من تناول الدواء الكريه ، فأخذتنا به رأفة ، فقد أعناه على ما يهلكه ويضره وقال تعالى : نهانا الله سبحانه أن تأخذنا بالزناة رأفة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر أي : فيها الشفاء والبرء من ذلك . بل الرأفة به أن يعان على شرب الدواء وإن كان كريها ، مثل الصلاة وما فيها من الأذكار والدعوات وأن يحمى عما يزيد علته . ولا يظن أنه إذا استمتع بمحرم يسكن بلاؤه . بل ذلك يوجب له زيادة في البلاء . فإنه وإن سكن ما به عقيب استمتاعه ، أعقبه ذلك مرضا عظيما لا يتخلص منه ، بل الواجب دفع أعظم الضررين باحتمال أدناهما قبل استحكام الداء .
ومن المعلوم أن ألم العلاج النافع أيسر من ألم المرض الباقي . وبهذا يتبين أن ، الداخلة في قوله تعالى : العقوبات الشرعية أدوية نافعة . وهي من رأفة الله بعباده وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين فمن ترك هذه الرحمة النافعة ، لرأفة بالمريض ، فهو الذي أعان على عذابه ، وإن كان لا يريد إلا الخير ، إذ هو في ذلك جاهل أحمق ، كما يفعله بعض النساء بمرضاهن وبمن يربينهن من أولادهن في ترك تأديبهم على ما يأتونه من الشر ويتركونه من الخير .
ومن الناس من تأخذه الرأفة بهم لمشاركته لهم في ذلك المرض وبرودة القلب والدياثة . وهو في ذلك من أظلم الناس وأديثهم في حق نفسه ونظرائه . وهو بمنزلة جماعة مرضى قد وصف لهم الطبيب ما ينفعهم ، فوجد كبيرهم مرارته ، فترك شربه .
ونهى عن سقيه للباقين . ومنهم من تأخذه الرأفة لكون أحد الزانين محبوبا له . إما لقرابة أو مودة أو إحسان ، أو لما يرجوه منه ، أو لما في العذاب من الألم الذي يوجب رقة القلب . ويتأول . وليس كما قال . بل ذلك وضع الشيء في غير موضعه . بل قد ورد « إنما يرحم الله من عباده [ ص: 4430 ] الرحماء » « لا يدخل الجنة ديوث » فمن لم يكن مبغضا للفواحش كارها لها ولأهلها ، ولا يغضب عند رؤيتها وسماعها ، لم يكن مريدا للعقوبة عليها . فيبقى العذاب عليها يوجب ألم قلبه ، قال تعالى : ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله الآية . في دين الله هو طاعته وطاعة رسوله . المبني على محبته ومحبة رسوله ، وأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما . فإن الرأفة والرحمة يحبهما لله ما لم تكن مضيعة لدين الله .
فالرحمة مأمور بها بخلاف الرأفة في دين الله . والشيطان يريد من الإنسان الإسراف في أموره كلها . فإنه إن رآه مائلا إلى الرحمة ، زين له الرحمة حتى لا يبغض ما أبغضه الله ، ولا يغار ، وإن رآه مائلا إلى الشدة ، زين له الشدة في غير ذات الله ، فيزيد في الذم والبغض والعقاب على ما يحبه . ويترك من اللين والصلة والإحسان والبر ما يأمر الله به . فالأول مذنب والثاني مسرف . فليقولا جميعا : ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا الآية .
وقوله : إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر فالمؤمن بذلك يفعل ما يحبه الله ، وينهى عما يبغضه الله . ومن لم يؤمن بالله واليوم الآخر فإنه يتبع هواه ، فتارة تغلب عليه الشدة : ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله والنظر والمباشرة ، وإن كان بعضه من اللمم ، فإن دوام ذلك وما يتصل به ، من المعاشرة والمباشرة قد تكون أعظم بكثير من فساد زنى لا إصرار فيه . بل قد ينتهي النظر والمباشرة بالرجل إلى الشرك . كما قال تعالى : ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله الآية . ولهذا لا يكون عشق الصور إلا من ضعف محبة الله وضعف الإيمان . والله تعالى إنما ذكره عن امرأة العزيز [ ص: 4431 ] المشركة وعن قوم لوط . وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم الحدود فيما رواه من حديث أبو داود : ابن عمر ، حبس في ردعة الخبال حتى يخرج مما قال » قال في مسلم ما ليس فيه . فالشافع في الحدود مضاد لله في أمره . فلا يجوز أن يأخذ المؤمن رأفة بأهل البدع والفجور والمعاصي ، وجماع ذلك كله قوله : « من حالت شفاعته دون حد من حدود الله ، فقد ضاد الله في أمره . ومن خاصم في باطل ، وهو يعلم ، لم يزل في سخط لله حتى ينزع ومن أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين وقوله : أشداء على الكفار رحماء بينهم فإن هذه الكبائر كلها من شعب الكفر كما في الصحاح : إلخ . ففيهم من نقص الإيمان ما يوجب زوال الرأفة بهم . ولا منافاة بين كون الواحد يحب من وجه ويبغض من وجه ، ويثاب من وجه ويعاقب من وجه . خلافا « لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن » للخوارج والمعتزلة . ولهذا جاء في السنة أن . من أقيم عليه الحد ، يرحم من وجه آخر ، فيحسن إليه ويدعى له
وهذا الجانب أغلب في الشريعة ، كما في صفة الرب سبحانه وتعالى .
ففي الصحيح : وقال : « إن رحمتي تغلب غضبي » نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم وقال : اعلموا أن الله شديد [ ص: 4432 ] العقاب وأن الله غفور رحيم فجعل الرحمة صفة مذكورة في أسمائه . وأما العذاب والعقاب فجعلهما من مفعولاته . ومن هذا ما أمر الله تعالى به من الغلظة على الكفار والمنافقين .
وقال تعالى : واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم الآية ، وفي الحديث بيان السبيل الذي جعله الله لهن وهو جلد مائة وتغريب عام في البكر ، وفي الثيب الرجم لكن الذي في الحديث الجلد والنفي للبكر من الرجال وأما الآية ففيها ذكر الإمساك في البيوت للنساء إلى الموت ، والسبيل للنساء خاصة . ومن الفقهاء من لا يوجب مع الحد تغريبا ، ومنهم من يفرق بين الرجل والمرأة . كما أن أكثرهم لا يوجبون الجلد مع الرجم . ومنهم من يوجبها جميعا . كما فعل بشراحة الهمدانية ، حيث جلدها ثم رجمها . وقال : جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة نبيه . رواه . البخاري
والله سبحانه ذكر في سورة النساء ما يختص بهن من العقوبة .
ثم ذكر ما يعم الصنفين فقال : واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما فإن الأذى يتناول الصنفين . وأما الإمساك فيختص بالنساء ، لأن المرأة يجب أن تصان بما لا يجب مثله في الرجال ولهذا خصت بالاحتجاب وترك الزينة وترك التبرج ، لأن ظهورها يسبب الفتنة ، والرجال قوامون عليهن ، وقوله : فاستشهدوا عليهن أربعة منكم دل على شيئين : على وعلى أن الشهداء على نسائنا منا . وهذا لا نزاع فيه . نصاب الشهادة
وأما ففيها روايتان عن شهادة الكفار بعضهم على بعض . الثانية أنها تقبل . اختارها أحمد أبو الخطاب . وهو قول . وهو أشبه بالكتاب والسنة . أبي حنيفة
وقوله صلى الله عليه وسلم : « لا تجوز شهادة أهل ملة [ ص: 4433 ] على ملة ، إلا أمتي » فمفهومه جواز . ولكن فيه : أن شهادة أهل الملة الواحدة بعضهم على بعض لقوله تعالى : المؤمنين تقبل شهادتهم على من سواهم، لتكونوا شهداء على الناس وفي آخر الحج مثلها وفي من حديث البخاري : (يدعى نوح ) ، الحديث وكذلك فيهما من حديث أبي سعيد ، شهادتهم على الجنازتين خيرا وشرا ، فقال : أنس الحديث . ولهذا لما كان أهل السنة والجماعة لم يشوبوا الإسلام بغيره ، كانت شهادتهم مقبولة على سائر فرق الأمة ، بخلاف أهل البدع والأهواء ، كالخوارج والروافض ، فإن بينهم من العداوة والظلم ما يخرجهم عن هذه الحقيقة التي جعلها الله لأهل السنة ، قال فيهم : « أنتم شهداء الله في أرضه » « يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين » واستدل من جوز شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض بهذه الآية : يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم الآية ، قالوا : دلت على قبول شهادتهم على المسلمين . ففيه تنبيه على قبول شهادة بعضهم على بعض بطريق الأولى . ثم نسخ الظاهر لا يوجب نسخ الفحوى ، والتنبيه على الأقوى . كما نص عليه وغيره من أئمة الحديث الموافقين للسلف . ولهذا يجوز في الشهادة للضرورة ما لا يجوز في غيرها . كما أحمد . حتى نص تقبل شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال على قبول شهادتين في الحدود التي تكون في مجامعهن الخاصة . [ ص: 4434 ] فالكفار الذين لا يختلط بهم المسلمون أولى ، والله أمرنا أن نحكم بينهم ، والنبي صلى الله عليه وسلم رجم الزانيين من اليهود ، ومن غير سماع إقرار منهم ولا شهادة مسلم . ولولا قبول شهادة بعضهم على بعض لم يجز ذلك . أحمد
وفي تولي بعضهم مال بعض ، نزاع ، فهل يتولى الكافر العدل في دينه ، مال ولده الكافر ؟ على قولين والصواب المقطوع به أن بعضهم أولى ببعض وقد مضت السنة بذلك وسنة خلفائه .