القول في تأويل قوله تعالى :
[54] وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم .
وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم أي : بالانقياد ، والخشية . والضمير للقرآن أو لله تعالى : وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى [ ص: 4354 ] صراط مستقيم أي : إلى طريق الحق والاستقامة ، فلا تزل أقدامهم بقبول ما يلقي الشيطان ، ولا تقبل قلوبهم إلا ما يلقي الرحمن ، لصفائها . هذا هو الصواب في تفسير الآية . ولها نظائر تظهر المراد منها كما أشرنا إليه ، لو احتاجت إلى نظير . ولكنها بينة بنفسها ، غنية عن التطويل في التأويل ، لولا ما أحوج المحققين إلى رد ما دسه بعض الرواة هنا من الأباطيل . ونحن نسوق ما قيل فيها من ذلك ، ثم نتبعه بنقد المحققين ، لئلا يبقى في نفس الواقف حاجة .
قال : قيل : إن السبب الذي من أجله أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن الشيطان كان ألقى على لسانه ، في بعض ما يتلوه مما أنزل الله عليه من القرآن ، ما لم ينزل الله عليه . فاشتد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم واغتم به ، فسلاه الله مما به من ذلك ، بهذه الآيات . ثم ذكر من قال ذلك . فأسند عن ابن جرير الطبري محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس وغيرهما ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس في ناد من أندية قريش ، كثير أهله ، فتمنى يومئذ ألا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه . فأنزل الله عليه : { والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى } ، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا بلغ : { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى } ، ألقى عليه الشيطان كلمتين : تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى . فتكلم بها ، ثم مضى فقرأ السورة كلها . فسجد في آخر السورة وسجد القوم جميعا معه ورضوا بما تكلم به .
قالا : فلما أمسى أتاه جبريل عليه السلام فعرض عليه السورة . فلما بلغ الكلمتين المذكورتين قال : ما جئتك بهاتين . فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأنزل الله تبارك وتعالى عليه يعزيه : وما أرسلنا من قبلك الآية .
وقال في (" الشفا " ) : اعلم أن لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين : أحدهما في توهين أصله ، والثاني على تسليمه . القاضي عياض
[ ص: 4355 ] أما المأخذ الأول ، فيكفيك أن هذا لم يخرجه أحد من أهل الصحة ، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل . وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب ، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم . وصدق القاضي بكر بن العلاء المالكي حيث قال : لقد بلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفاسير . وتعلق بذلك الملحدون مع ضعف بعض نقلته ، واضطراب رواياته ، وانقطاع إسناده ، واختلاف كلماته . ومن حكيت عنه هذه الحكاية من المفسرين والتابعين ، لم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صاحب . وأكثر الطرق عنهم فيها ، واهية ضعيفة ، والمرفوع فيه حديث عن شعبة أبي بشر ، عن ، عن سعيد بن جبير فيما أحسب (الشك في الحديث ) : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ابن عباس بمكة ، وذكر القصة .
قال أبو بكر : هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل ، يجوز ذكره إلا هذا ، ولم يسنده عن البزار إلا شعبة أمية بن خالد . وغيره يرسله عن . وإنما يعرف عن سعيد بن جبير ، عن الكلبي أبي صالح ، عن . فقد بين لك ابن عباس رحمه الله أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا . وفيه من الضعف ما نبه عليه ، مع وقوع الشك فيما ذكرناه ، الذي لا يوثق به ولا حقيقة معه . وأما حديث أبو بكر فما لا تجوز الرواية عنه ولا ذكره ، لقوة ضعفه وكذبه ، كما أشار إليه الكلبي رحمه الله : والذي منه في الصحيح ; البزار أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة (والنجم ) وهو بمكة . فسجد معه المسلمون والمشركون والإنس والجن .
هذا توهينه من طريق النقل .
وأما من جهة المعنى فقد قامت الحجة وأجمعت الأمة على ، ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة . إما من تمنيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح غير الله وهو كفر ، أو أن يتسور عليه الشيطان ويشبه عليه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه ، حتى ينبهه عليه عصمته عليه السلام جبريل عليهما السلام . وذلك كله ممتنع في حقه عليه السلام . أو يقول ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من [ ص: 4356 ] قبل نفسه عمدا ، وذلك كفر . أو سهوا وهو معصوم من هذا كله . ووجه ثان - وهو استحالة هذه القصة نظرا وعرفا . وذلك أن الكلام ، لو كان كما روي ، بعيد الالتئام ، متناقض الأقسام ممتزج المدح بالذم ، متخاذل التأليف . ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم ولا من بحضرته من المسلمين وصناديد المشركين ، ممن يخفى عليه ذلك ، وهذا لا يخفى على أدنى متأمل . فكيف بمن رجح حلمه ، واتسع في باب البيان ومعرفة فصيح الكلام علمه ؟ ووجه ثالث - أنه قد علم من عادة المنافقين ومعاندي المشركين وضعفة القلوب والجهلة من المسلمين ، نفورهم من أول وهلة ، وتخليط العدو على النبي صلى الله عليه وسلم لأقل فتنة ، وتعييرهم المسلمين والشمات بهم الفينة بعد الفينة . وارتداد من في قلبه مرض ممن أظهر الإسلام لأدنى شبهة . ولم يحك أحد في هذه القصة شيئا سوى هذه الرواية الضعيفة الأصل . ولو كان ذلك لوجدت قريش بها على المسلمين الصولة . ولأقامت بها اليهود عليهم الحجة . كما فعلوه مكابرة في قصة الإسراء حتى كانت في ذلك لبعض الضعفاء ردة . وكذلك ما روي في قصة القضية . ولا فتنة أعظم من هذه البلية لو وجدت . ولا تشغيب للمعادي حينئذ أشد من هذه الحادثة لو أمكنت . فما روي عن معاند فيها كلمة . ولا عن مسلم بسببها بنت شفة . فدل على بطلانها ، واجتثاث أصلها . ولا شك في إدخال بعض شياطين الإنس والجن ، على بعض مغفلي المحدثين ، ليلبس به على ضعفاء المسلمين .
ووجه رابع - ذكر الرواة لهذه القضية أن فيها نزلت : وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك الآيتين . وهاتان الآيتان تردان الخبر الذي رووه . لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفتري ، وأنه لولا أن ثبته لكاد يركن إليهم . فمضمون هذا ومفهومه ، أن الله تعالى عصمه من أن يفتري ، وثبته حتى لم يركن إليهم قليلا ، فكيف كثيرا ؟ وهم يروون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والافتراء بمدح آلهتهم . وهذا ضد مفهوم الآية ، ويضعف الحديث ، لو صح ، فكيف ولا صحة له ؟ وأما المأخذ الثاني فهو مبني على تسليم الحديث ، لو صح . وقد أعاذنا الله من صحته . ولكن على كل حال فقد أجاب عن ذلك [ ص: 4357 ] أئمة المسلمين بأجوبة منها الغث والسمين . فمنها ما رواه قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم أصابته سنة عند قراءة هذه السورة . فجرى هذا الكلام على لسانه بحكم النوم . وهذا لا يصح . إذ ومقاتل ، لعصمته في هذا الباب من جميع العمد والسهو . وقد قال عليه السلام : لا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم مثله في حالة من أحواله . ولا يخلقه الله على لسانه ولا يستولي الشيطان عليه في نوم ولا يقظة . وفي حديث « إن عيني تنامان ولا ينام قلبي » ; أن النبي صلى الله عليه وسلم حدث نفسه ، فقال ذلك الشيطان على لسانه . وفي رواية الكلبي عن ابن شهاب أبي بكر بن عبد الرحمن قال : ومنها لما أخبر بذلك قال : إنما ذلك من الشيطان . وكل هذا لا يصح أن يقوله عليه السلام لا سهوا ولا قصدا . ولا يتقوله الشيطان على لسانه . وقيل : لعل النبي صلى الله عليه وسلم قاله أثناء تلاوته ، على تقدير التقرير والتوبيخ للكفار . كقول إبراهيم : هذا ربي على أحد التأويلات . وكقوله : بل فعله كبيرهم هذا بعد السكت وبيان الفصل بين الكلامين . ثم رجع إلى تلاوته . وهذا ممكن مع بيان الفصل وقرينة تدل على المراد ، وأنه ليس من المتلو . وهو أحد ما ذكره القاضي أبو بكر .
ومما يظهر في تأويله ، إن سلمنا القصة ، أن يراد بالغرانيق الملائكة . ورجاء الشفاعة من الملائكة صحيح . فلما تأوله المشركون على أن المراد بها آلهتهم . ولبس عليهم الشيطان ذلك وزينه في قلوبهم ، وألقاه إليهم ، نسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم آياته ورفع تلاوة تلك اللفظتين . انتهى كلام القاضي ملخصا .
وقال : وقيل كان صلى الله عليه وسلم يرتل القرآن ، فارتصده الشيطان في سكتة [ ص: 4358 ] من السكتات . ونطق بتلك الكلمات ، محاكيا نغمته . بحيث سمعه من دنا إليه ، فظنها من قوله تعالى وأشاعها . أبو بكر الباقلاني
قال : وهذا أحسن الوجوه . ويؤيده ما روي عن من تفسير (تمنى ) بـ(تلا ) وكذا استحسن ابن عباس هذا التأويل . وقال قبله : إن هذه الآية نص في براءة النبي صلى الله عليه وسلم ما نسب إليه ، وأن الشيطان زاده في قوله صلوات الله عليه ، لا أنه عليه السلام قاله . ابن العربي
قال : وقد سبق إلى ذلك فصوب هذا المعنى وحوم عليه . واستحسان الطبري ذلك ، على فرض صحة القصة ، وإلا فقد قال : ذكر ابن العربي في ذلك روايات كثيرة باطلة لا أصل لها . وقال الطبري تقي الدين بن تيمية : في الآية قولان والمأثور عن السلف يوافق القرآن بذلك . والذين منعوا ذلك من المتأخرين طعنوا فيما ينقل من الزيادة في سورة النجم بقوله : (تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى ) . وقالوا : إن هذا لم يثبت . ومن علم أنه ثبت قال : هذا ألقاه الشيطان في مسامعهم ، ولم يلفظ به الرسول صلى الله عليه وسلم . ولكن السؤال وارد على هذا التقدير أيضا .
وقالوا في قوله : إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته هو حديث النفس وأما الذين قرروا ما نقل عن السلف ، فقالوا : هذا منقول نقلا ثابتا لا يمكن القدح فيه وقالوا : الآثار في تفسير هذه الآية معروفة ثابتة في كتب التفسير والحديث . والقرآن يوافق ذلك . فإن نسخ الله لما يلقي الشيطان ، وإحكامه آياته ، إنما يكون لرفع ما وقع في آياته ، وتمييز الحق عن الباطل حتى لا تختلط آياته بغيرها . وجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم ، إنما يكون ذلك ظاهرا يسمعه الناس ، لا باطنا في النفس . والفتنة التي تحصل بهذا النوع من النسخ ، من جنس الفتنة التي تحصل بالنوع الآخر من النسخ . وهذا النوع أدل على ، من ذلك النوع . فإنه إذا كان يأمر بأمر ثم يأمر بخلافه وكلاهما من عند الله ، وهو مصدق في ذلك ، فإذا قال عن نفسه أن الثاني هو الذي [ ص: 4359 ] من عند الله وهو الناسخ ، وإن ذلك المرفوع الذي نسخه الله ليس كذلك ، كان أدل على اعتماده للصدق وقول الحق . وهذا كما قالت صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبعده عن الهوى رضي الله عنها : لو كان عائشة محمد كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية : وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ألا ترى أن الذي يعظم نفسه بالباطل يريد أن ينصر كل ما قاله ولو كان خطأ . فبيان الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله أحكم آياته ونسخ ما ألقاه الشيطان ، هو أدل على تحريه للصدق وبراءته من الكذب . وهذا هو المقصود بالرسالة . فإنه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم تسليما . انتهى .
وفي كلامه رحمه الله نظر من وجوه :
أولا : دعواه أن المأثور يوافق القرآن . فإنه ذهاب إلى أن الإلقاء إلقاء في الآيات . ولا تدل الآية عليه ، لا مطابقة ولا التزاما . بل القول بذلك ينافي التنزيل والوحي منافاة النار للماء ، كما ستراه .
وثانيا : دعواه أن تلك الرواية نقلها ثابت لا يمكن القدح فيه . فقد قدح فيها من لا يحصى من المتقدمين والمتأخرين . ويكفي أن تلميذه الحافظ قال : قد ذكر كثير من المفسرين ها هنا قصة الغرانيق . وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض ابن كثير الحبشة ، ظنا منهم أن مشركي قريش أسلموا . ولكنها من طرق كلها مرسلة . ولم أرها مسندة من وجه صحيح . وتعداد طرقها ، بعد ضعف أصلها ، لا يفيد . وهذه شبهة يعتمدها كثير من الواقفين مع الروايات . يظنون أن الضعيف بكثرة طرقه يقوى . والحال أن الضعيف ضعيف كيفما جاء . وقد سرت هذه الشبهة للحافظ ابن حجر . فأخذ يقوي بعض طرقها ويصححها من جهة الإسناد . كما ستمر بك مناقشته . ولو كان لها أدنى رائحة من الصحة لأخرجها معلقة أو موقوفة ، أو أرباب السنن . البخاري
[ ص: 4360 ] وثالثا : اعترافه بأن السؤال وارد على تقدير ثبوتها ، وإلقاء الشيطان ذلك في مسامعهم ، مما يبرهن أن فيها مغامز تنبذها العقول ، كما نبذتها صحة النقول .