[199] ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم .
ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس أي: من عرفة لا من المزدلفة. وفي الخطاب وجهان:
أحدهما: أنه لقريش وذلك لما كانوا عليه من الترفع على الناس والتعالي عليهم، وتعظمهم عن أن يساووهم في الموقف، وقولهم: نحن أهل الله، وقطان حرمه، فلا نخرج منه. فيقفون بجمع، وسائر الناس بعرفات.
وقد روى عن البخاري رضي الله عنه قالت: عائشة قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحمس، وكان سائر العرب يقفون بعرفات ; فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات، ثم يقف بها، ثم يفيض منها فذلك قوله تعالى: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس كانت
وثانيهما: أنه أمر لجميع الناس أن يفيضوا من حيث أفاض الناس يعني: إبراهيم عليه السلام.
قال وسماه الناس لأن " الناس " يستعمل على ضربين: أحدهما: للنوع من غير [ ص: 499 ] اعتبار مدح وذم، والثاني: المدح اعتبارا بوجود تمام الصورة المختصة بالإنسانية، وليس ذلك في هذه اللفظة، بل في اسم كل جنس ونوع - نحو: هذه فرس، وفلان رجل، وليس هذا بفرس ولا فلان برجل - أي: ليس فيه معناه المختص بنوعه، وبهذا النظر نفي السمع والبصر عن الكفار! فعلى هذا سمي الراغب: إبراهيم " الناس " على سبيل المدح - وهو أن الواحد يسمى باسم الجماعة تنبيها على أنه يقوم مقامهم في الحكم - وعلى هذا قول الشاعر:
وليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد
وعلى هذا قال: إن إبراهيم كان أمة اهـ.
فإن قيل: ما معنى كلمة ثم فإنها تستلزم تراخي الشيء عن نفسه، سواء عطف على مجموع الشرط والجزاء أو الجزاء فقط..؟
فالجواب: إن كلمة ثم ليست للتراخي، بل مستعارة للتفاوت بين الإفاضتين - أي: الإفاضة من عرفات والإفاضة من مزدلفة- والبعد بينهما بأن أحدهما صواب والآخر خطأ.
قال التفتازاني: لما كان المقصود من قوله تعالى: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس المعنى التعريضي، كان معناه: ثم لا تفيضوا من مزدلفة، والمقصود من إيراد كلمة ثم التفاوت بين الإفاضتين في الرتبة بأن أحدهما صواب والأخرى خطأ.
وأجاب بعضهم بأن ثم بمعنى الواو.
واستغفروا الله عما سلف من المعاصي: إن الله غفور رحيم
قال عليه الرحمة: كثيرا ما يأمر الله بذكره بعد قضاء العبادات. ولهذا ثبت في " صحيح ابن كثير " مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من الصلاة يستغفر الله ثلاثا [ ص: 500 ] وثلاثين، وفي الصحيحين: وقد روى أنه ندب إلى التسبيح والتحميد والتكبير ثلاثا وثلاثين. ههنا حديث ابن جرير عباس بن مرداس السلمي في استغفاره صلى الله عليه وسلم لأمته عشية عرفة.