القول في تأويل قوله تعالى :
[9] وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين .
وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين في الآية فوائد :
الأولى : قال : لما ذكر تعالى من الحيوانات ما يسار عليه في السبل الحسية, [ ص: 3783 ] نبه على الطرق المعنوية الدينية ، وكثيرا ما يقع في القرآن العبور من الأمور الحسية إلى الأمور المعنوية الدينية ، كقوله تعالى : ابن كثير وتزودوا فإن خير الزاد التقوى وقال تعالى : يا بني آدم قد أنـزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير
ولما ذكر تعالى في هذه السورة الحيوانات من الأنعام وغيرها ، التي يركبونها ويبلغون عليها حاجة في صدورهم ، وتحمل أثقالهم إلى البلاد والأماكن البعيدة والأسفار الشاقة ; شرع في ذكر الطرق التي يسلكها الناس إليه ، فبين أن الحق منها موصلة إليه ، فقال : وعلى الله قصد السبيل كقوله تعالى : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله وقال : هذا صراط علي مستقيم انتهى . وقوله سبحانه : إن علينا للهدى
الثانية : قال أبو السعود : (القصد): مصدر بمعنى الفاعل . يقال : سبيل قصد وقاصد : أي : مستقيم . على طريقة الاستعارة أو على نهج إسناد حال سالكه إليه ، كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه . أي : حق عليه سبحانه وتعالى ، بموجب رحمته ووعده المحتوم ، بيان الطريق المستقيم الموصل لمن يسلكه إلى الحق ، الذي هو التوحيد : بنصب الأدلة وإرسال الرسل وإنزال الكتب لدعوة الناس إليه . أو مصدر بمعنى الإقامة والتعديل . قاله . أي : عليه ، عز وجل ، تقويمها وتعديلها . أي : جعلها بحيث يصل سالكها إلى الحق . لكن لا بعد ما كانت في نفسها منحرفة عنه ، بل إبداعها ابتداء كذلك على نهج ( سبحان من صغر البعوض ، وكبر الفيل) . وحقيقته راجعة إلى ما ذكر من نصب الأدلة . وقد فعل ذلك حيث أبدع هذه البدائع التي كل واحد منها لاحب يهتدى بمناره ، وعلم يستضاء بناره ، وأرسل [ ص: 3784 ] رسلا مبشرين ومنذرين ، وأنزل عليهم كتبا من جملتها هذا الوحي الناطق بحقيقة الحق ، الفاحص عن كل ما جل من الأسرار ودق ، الهادي إلى سبيل الاستدلال بتلك الأدلة المفضية إلى معالم الهدى ، المنجية عن فيافي الضلالة ومهاوي الردى . أبو البقاء
الثالثة : الضمير في : ومنها جائر للسبيل . فإنها تؤنث . أي : وبعض السبيل مائل عن الحق ، منحرف عنه ، لا يوصل سالكه إليه . وهو طرق الضلالة التي لا يكاد يحصى عددها ، المندرج كلها تحت الجائر ، كقوله تعالى : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله
قال أبو السعود ، بعد ما تقدم ، أي : وعلى الله تعالى بيان الطريق المستقيم الموصل إلى الحق وتعديله ، بما ذكر من نصب الأدلة ليسلكه الناس باختيارهم ويصلوا إلى المقصد . وهذا هو الهداية المفسرة بالدلالة على ما يوصل إلى المطلوب ، لا الهداية المستلزمة للاهتداء البتة . فإن ذلك مما ليس بحق على الله تعالى . لا بحسب ذاته ولا بحسب رحمته ، بل هو مخل بحكمته ، حيث يستدعي تسوية المحسن والمسيء ، والمطيع والعاصي ، بحسب الاستعداد . وإليه أشير بقوله تعالى : ولو شاء لهداكم أجمعين أي : لو شاء أن يهديكم إلى ما ذكر من التوحيد ، هداية موصلة إليه البتة ، مستلزمة لاهتدائكم أجمعين ; لفعل ذلك ، ولكن لم يشأه ; لأن مشيئته تابعة للحكمة الداعية إليها . ولا حكمة في تلك المشيئة ; لما أن الذي عليه يدور فلك التكليف ، وإليه ينسحب الثواب والعقاب ، إنما هو الاختيار الذي عليه يترتب الأعمال ، التي بها نيط الجزاء.
ولما كان أشرف أجسام العلم السفلي ، بعد الحيوان ، النبات ، تأثر ما مر من الإنعام بالأنعام والدواب ، التي يستدل بها على وحدته تعالى ، بذكر عجائب أحوال النبات ، للحكمة نفسها ، فقال سبحانه :
[ ص: 3785 ]