القول في تأويل قوله تعالى:
[184] أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون .
أياما معدودات نصب على الظرف، أي: كتب عليكم الصيام في أيام معدودات، وهي أيام شهر رمضان، كما بينها تعالى فيما بعد، بقوله: شهر رمضان الذي أنـزل فيه القرآن فمن كان منكم مريضا أي: مرضا يضره الصوم، أو يعسر معه.
والمرض: السقم، وهو نقيض الصحة واضطراب الطبيعة بعد صفائها واعتدالها: أو على سفر أي: فافطر: فعدة أي: فعليه صوم عدة أيام المرض والسفر: من أيام أخر غير المعدودات المذكورة. وإنما رخص الفطر في حال المرض والسفر لما في ذلك من المشقة. وقد سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان في أعظم الغزوات وأجلها: في غزوة بدر، [ ص: 419 ] وغزوة الفتح. قال عمر بن الخطاب: بدر والفتح، فأفطرنا فيهما. غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان غزوتين: يوم
تنبيهات:
الأول: ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صام في السفر وأفطر، كما خير بعض الصحابة بين الصوم والفطر. ففي الصحيحين عن رضي الله عنه قال: أبي الدرداء وابن رواحة. وقوله: في بعض أسفاره: وقع في إحدى روايتي خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يوم حار، حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم بدله في شهر رمضان. وعن مسلم، عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: وفي رواية: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم. رواه الشيخان. واللفظ كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فلما غابت الشمس قال لرجل: « انزل فاجدح لنا..! » فقال: يا رسول الله! لو أمسيت. قال: « انزل فاجدح لنا » . قال: « إن عليك نهارا » . فنزل، فجدح له، فشرب، ثم قال: « إذا رأيتم الليل قد أقبل من ههنا - وأشار بيده نحو المشرق - فقد أفطر الصائم » لمسلم.
[ ص: 420 ] وعن رضي الله عنهما قال: ابن عباس المدينة إلى مكة فصام حتى بلغ عسفان، ثم دعا بماء فرفعه إلى يديه ليريه الناس، فأفطر حتى قدم مكة، وذلك في رمضان.
فكان يقول: قد صام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفطر، فمن شاء صام، ومن شاء أفطر. ابن عباس رواه الشيخان. واللفظ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من للبخاري.
وعن قزعة قال: فسألته عن أبا سعيد الخدري فقال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصوم في السفر، مكة ونحن صيام، قال: فنزلنا منزلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم » . فكانت رخصة، فمنا من صام ومنا من أفطر.
ثم نزلنا منزلا آخر فقال: « إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا » . وكانت عزمة فأفطرنا. ثم قال لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر، رواه أتيت وعن مسلم. عائشة: حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أأصوم في السفر؟ - وكان كثير الصيام - فقال: « إن شئت فصم وإن شئت فأفطر » . رواه أن البخاري.
ورواه من طريق آخر، أنه قال: مسلم . يا رسول الله أجد بي قوة على الصيام في السفر [ ص: 421 ] فهل علي جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « هي رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه »
وعن قال: أنس بن مالك رواه الشيخان. كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم.
الثاني: لا يخفى أن جواز الصوم للمسافر إذا أطاقه بلا ضرر. وأما إذا شق عليه الصوم فلا ريب في كراهته، لما في الصحيحين: عن رضي الله عنه قال: جابر . فلا ينافي هذا ما تقدم، كما لا يرد أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لأن السياق والقرائن تدل على تخصيصه بمن شق عليه الصوم. وما تقدم في غيره. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فرأى زحاما، ورجل قد ظلل عليه، فقال: « ما هذا؟ » فقالوا: صائم، فقال: « ليس من البر الصوم في السفر »
قال ابن دقيق العيد: وينبغي أن يتنبه للفرق بين دلالة السبب والسياق والقرائن على تخصيص العام، وعلى مراد المتكلم ; وبين مجرد العام على سبب. فإن بين المقامين فرقا واضحا. ومن أجراهما مجرى واحدا لم يصب. فإن مجرد ورود العام على سبب لا يقتضي التخصيص به، كنزول آية السرقة في قصة رداء صفوان. وأما السياق والقرائن الدالة على مراد المتكلم فهي المرشدة إلى بيان المجملات، كما في هذا الحديث. انتهى. وهو استنباط جيد. وبالجملة: فالمريض والمسافر يباح لهما الفطر. فإن صاما صح، فإن تضررا، كره..!.
[ ص: 422 ] الثالث: لم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم تقدير المسافة التي يفطر فيه الصائم بحد، ولا صح عنه في ذلك شيء. وقد أفطر في سفر ثلاثة أميال، وقال لمن صام: قد رغبوا عن هدي دحية بن خليفة الكلبي محمد صلى الله عليه وسلم..!. وكان الصحابة حين ينشئون السفر يفطرون من غير اعتبار مجاوزة البيوت، ويخبرون أن ذلك سنته وهديه صلى الله عليه وسلم. كما قال عبيد بن جبر: أبي بصرة الغفاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفينة من الفسطاط في رمضان، فلم نجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة. قال: اقترب، قلت: ألست ترى البيوت؟ قال أبو بصرة: أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ رواه ركبت مع أبو داود ولفظ وأحمد. أحمد: أبي بصرة من الفسطاط إلى الإسكندرية في سفينة، فلما دفعنا من مرسانا أمر بسفرته فقربت، ثم دعاني إلى الغداء. وذلك في رمضان، فقلت: يا أبا بصرة! والله ما تغيبت عنا منازلنا بعد؟! فقال: أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: لا! قال: فلم نزل مفطرين حتى بلغنا ماحوزنا، قيل: أي: موضعهم الذي أرادوه. ركبت مع
وقال محمد بن كعب: في رمضان - وهو يريد السفر - وقد رحلت راحلته، وقد لبس ثياب السفر، فدعا بطعام فأكل. فقلت له: سنة؟ قال: سنة. ثم ركب. أنس بن مالك قال أتيت حديث حسن. وقال الترمذي: فيه: فأكل وقد تقارب غروب الشمس..!. وهذه الآثار صريحة أن الدارقطني قاله في " زاد المعاد ". من أنشأ السفر في أثناء يوم من رمضان فله الفطر فيه.
وعلى الذين يطيقونه أي: الصوم، إن أفطروا: فدية أي: إعطاء فدية وهي: طعام مسكين و " الفدية ": ما يقي الإنسان به نفسه من مال يبذله في عبادة يقصر فيها، و " الطعام ": ما يؤكل وما به قوام البدن: فمن تطوع خيرا بأن أطعم أكثر [ ص: 423 ] من مسكين: فهو خير له لأنه فعل ما يدل على مزيد حبه لربه: وأن تصوموا أيها المطيقون: خير لكم من الفدية وإن زادت: إن كنتم تعلمون أي: فضيلة الصوم وفوائده، أو إن كنتم من أهل العلم.
وقد ذهب الأكثرون إلى أن هذه الآية منسوخة بما بعدها. فإنه كان في بدء الإسلام فرض عليهم الصوم ولم يتعودوه، فاشتد عليهم، فرخص لهم في الإفطار والفدية، كما روى عن مسلم قال: لما نزلت هذه الآية: سلمة بن الأكوع وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين كان من أراد أن يفطر ويفتدي، حتى نزلت الآية بعدها فنسختها. وأسند من طريق آخر عن سلمة أيضا قال: فمن شهد منكم الشهر فليصمه . وفي كنا في رمضان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من شاء صام، ومن شاء أفطر فافتدى بطعام مسكين، حتى أنزلت هذه الآية: قال البخاري. ابن عمر نسختها: وسلمة بن الأكوع: شهر رمضان الآية. ثم روي عن ابن أبي ليلى: محمد صلى الله عليه وسلم: نزل رمضان فشق عليهم، فكان من أطعم كل يوم مسكينا ترك الصوم ممن يطيقه، ورخص لهم في ذلك، فنسخت وأمروا بالصوم. ثم أسند أيضا عن حدثنا أصحاب أنه قال: هي منسوخة. ابن عمر
هذا، وقد روى في " التفسير ": عن البخاري أنه سمع عطاء يقول في هذه الآية: ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فليطعمان مكان كل يوم مسكينا. ابن عباس
[ ص: 424 ] هذا، وقد ذكر في " التفسير ": أن البخاري أطعم - بعد ما كبر - عاما أو عامين، كل يوم مسكينا، خبزا ولحما، وأفطر. رواه تعليقا، ووصله أنس بن مالك في " مسنده " ورواه أبو يعلى الموصلي في " مسنده " من حديث ستة من أصحاب عبد بن حميد عن أنس بمعناه وروى أنس، محمد بن هشام في فوائده عن حميد قال: ضعف عن الصوم عام توفي، فسألت ابنه أنس عمر بن أنس: أطاق الصوم؟ قال: لا..! فلما عرف أنه لا يطيق القضاء أمر بجفان من خبز ولحم فأطعم العدة أو أكثر...!.
ولما أبهم الأمر في الأيام عينت هنا بقوله تعالى: