[ ص: 343 ] بسم الله الرحمن الرحيم القول في تأويل قوله تعالى:
[158] إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم
قوله تعالى: إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما الصفا والمروة علمان لجبلين بمكة، ومعنى كونهما من شعائر الله: من أعلام مناسكه ومتعبداته.
قال الرازي: كل شيء جعل علما من أعلام طاعة الله، فهو من شعائر الله. قال الله تعالى: والبدن جعلناها لكم من شعائر الله أي: علامة للقربة. وقال: ذلك ومن يعظم شعائر الله وشعائر الحج معالم نسكه، ومنه المشعر الحرام، ومنه إشعار السنام - وهو أن يعلم بالمدية، فيكون ذلك علما على إحرام صاحبها، وعلى أنه قد جعله هديا لبيت الله. و(الشعائر): جمع شعيرة وهي العلامة، مأخوذ من الإشعار الذي هو الإعلام، ومنه قولك: شعرت بكذا أي: علمت انتهى.
[ ص: 344 ] القصد. والحج: في اللغة: الزيارة. غلبا في الشريعة على قصد والاعتمار: البيت، وزيارته، على الوجهين المعروفين في النسك. والجناح: بالضم: الإثم والتضييق والمؤاخذة. المشي حول الشيء. والمراد: السعي بينهما. وأصل الطواف:
وقد روي في سبب نزول الآية عدة روايات:
ولفظ عن البخاري قال: عروة رضي الله عنها فقلت لها: أرأيت قول الله تعالى: عائشة إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما فوالله! ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة! قالت: بئسما قلت يا ابن أختي! إن هذه لو كانت كما أولتها عليه، كانت: لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما، ولكنها أنزلت في الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية، التي كانوا يعبدونها عند المشلل، فكان من أهل يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة. فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ قالوا: يا رسول الله! إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله: إن الصفا والمروة من شعائر الآية.
قالت رضي الله عنها: وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما. عائشة فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما. سألت
ثم أخبرت أبا بكر بن عبد الرحمن فقال: إن هذا لعلم ما كنت سمعته، ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يذكرون أن الناس - إلا من ذكرت ممن كان يهل بمناة - كانوا يطوفون كلهم عائشة بالصفا والمروة، فلما ذكر الله تعالى الطواف بالبيت، ولم يذكر الصفا والمروة في القرآن قالوا: يا رسول الله! كنا نطوف بالصفا والمروة، وإن الله أنزل الطواف بالبيت فلم يذكر الصفا. فهل علينا من حرج أن نطوف بالصفا والمروة؟ فأنزل الله تعالى: إن الصفا والمروة من شعائر الله الآية.
[ ص: 345 ] قال فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما: في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا بالجاهلية أبو بكر: بالصفا والمروة، والذين يطوفون ثم تحرجوا أن يطوفوا بهما في الإسلام. من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت ولم يذكر الصفا، حتى ذكر ذلك بعد ما ذكر الطواف بالبيت.
وفي رواية عن معمر إنا كنا لا نطوف بين الزهري: الصفا والمروة تعظيما لمناة. أخرجه تعليقا، ووصله البخاري وغيره. أحمد
وأخرج في رواية مسلم يونس عن عن الزهري أن عروة بن الزبير أخبرته عائشة الأنصار كانوا قبل أن يسلموا، هم وغسان، يهلون لمناة. فتحرجوا أن يطوفوا بين الصفا والمروة، وكان ذلك سنة في آبائهم: من أحرم لمناة لم يطف بين الصفا والمروة. وإنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك حين أسلموا. فأنزل الله عز وجل في ذلك: إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم أن
وروى الفاكهي عن أن الزهري: عمرو بن لحي نصب مناة على ساحل البحر مما يلي قديد، فكانت الأزد وغسان يحجونها ويعظمونها، إذا طافوا بالبيت وأفاضوا من عرفات وفرغوا من منى أتوا مناة فأهلوا لها. فمن أهل لها لم يطف بين الصفا والمروة قال: وكانت مناة للأوس والخزرج والأزد من غسان، ومن دان دينهم من أهل يثرب.
وروى بإسناد قوي عن النسائي قال: كان على زيد بن حارثة الصفا والمروة صنمان من نحاس يقال لهما إساف ونائلة كان المشركون إذا طافوا تمسحوا بهما... الحديث.
وروى الطبراني في التفسير بإسناد حسن من حديث وابن أبي حاتم قال: [ ص: 346 ] قالت ابن عباس الأنصار: إن السعي بين الصفا والمروة من أمر الجاهلية. فأنزل الله عز وجل: إن الصفا والمروة الآية.
وروى الفاكهي في " الأحكام " بإسناد صحيح عن وإسماعيل القاضي قال: كان صنم الشعبي بالصفا يدعى "إساف"، ووثن بالمروة يدعى "نائلة"، فكان أهل الجاهلية يسعون بينهما، فلما جاء الإسلام رمى بهما، وقالوا: إنما كان ذلك يصنعه أهل الجاهلية من أجل أوثانهم، فأمسكوا عن السعي بينهما، قال: فأنزل الله تعالى: إن الصفا والمروة الآية.
وقد استفيد من مجموع هذه الروايات: أنه تحرج طوائف من السعي بين الصفا والمروة لأسباب متعددة فنزلت في الكل. والله أعلم.
وجواب رضي الله عنها، عائشة، هو من دقيق علمها وفهمها الثاقب، وكبير معرفتها بدقائق الألفاظ ; لأن الآية الكريمة إنما دل لفظها على رفع الجناح عمن يطوف بهما، وليس فيه دلالة على عدم وجوب السعي ولا على وجوبه. لعروة
ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم أي: من فعل خيرا فإن الله يشكره عليه ويثيبه به. ومعنى: ( تطوع ) أتى بما في طوعه أو بالطاعة، وإطلاقه على ما لا يجب عرف فقهي لا لغوي. والشكر من الله تعالى المجازاة والثناء الجميل.
قال الشكر، كما يكون بالقول، يكون بالفعل، وعلى ذلك قوله تعالى: الراغب: اعملوا آل داود شكرا قال: وليس شكر الرفيع للوضيع إلا الإفضال عليه وقبول حمد منه.
[ ص: 347 ] تنبيهات:
الأول: تمسك بعضهم بقوله تعالى: ومن تطوع خيرا على أن سنة، وأن من تركه لا شيء عليه، فإن كان مأخذه منها: إن التطوع التبرع بما لا يلزم، فقد قدمنا أنه عرف فقهي لا لغوي، فلا حجة فيه. وإن كان نفى الجناح، فقد علمت المراد منه. السعي
وممن ذهب إلى أنه سنة، لا يجبر بتركه شيء، فيما نقله أنس ابن المنذر نقله وعطاء، ابن حجر في " الفتح ".
وقال الرازي: روي عن ابن الزبير ومجاهد أن من تركه فلا شيء عليه. وأما حديث: وعطاء، رواه « اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي » وغيره، ففي إسناده أحمد عبد الله بن المؤمل، وفيه ضعف. ومن ثم قال إن ثبت فهو حجة في الوجوب. ذكره ابن المنذر: الحافظ ابن حجر في " الفتح ".
الثاني: صح الصفا والمروة سبعا. رواه الشيخان [ ص: 348 ] وغيرهما عن أنه صلى الله عليه وسلم طاف بين وأخرج ابن عمر. وغيره من حديث مسلم أبي هريرة: الصفا فعلا عليه حتى نظر إلى البيت ورفع يديه، فجعل يحمد الله ويدعو بما شاء أن يدعو. وأخرج أيضا من حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه أتى جابر: الصفا قرأ: « إن الصفا والمروة من شعائر الله. أبدأ بما بدأ الله به » فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحد الله وكبره قال: « لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده » ثم دعا بين ذلك، فقال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة حتى إذا أنصبت قدماه في بطن الوادي، حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصفا اهـ. وظاهر هذا أنه كان ماشيا. أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دنا من
وقد روى في صحيحه عن مسلم أنه سمع أبي الزبير: يقول: جابر بن عبد الله بالبيت، وبين الصفا والمروة، ليراه الناس، وليشرف وليسألوه، فإن الناس غشوه. طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته
ولم يطف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا.
قال ابن حزم: لا تعارض بينهما، لأن الراكب إذا انصب به بعيره فقد انصب كله وانصبت قدماه أيضا مع سائر جسده.
[ ص: 349 ] وعندي - في الجمع بينهما - وجه آخر أحسن من هذا وهو: أنه سعى ماشيا أولا، ثم أتم سعيه راكبا، وقد جاء ذلك مصرحا به ; ففي صحيح عن مسلم أبي الطفيل قال: أخبرني عن لابن عباس: الصفا والمروة راكبا، أسنة هو؟ فإن قومك يزعمون أنه سنة! قال: صدقوا وكذبوا..! قال: قلت: ما قولك صدقوا وكذبوا..؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر عليه الناس. يقولون: هذا الطواف بين محمد..! حتى خرج عليه العواتق من البيوت - قال - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضرب الناس بين يديه - فلما كثر عليه ركب. والمشي والسعي أفضل. قلت
وفي الصحيحين عن عن عطاء رضي الله عنهما قال: إنما سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عباس بالبيت وبين الصفا والمروة ليري المشركين قوته..!
وعن كريب مولى ابن عباس: أن قال: ليس السعي ببطن الوادي بين ابن عباس الصفا والمروة بسنة، إنما كان أهل الجاهلية يسعونها ويقولون: لا نجيز البطحاء إلا شدا..! رواه تعليقا، ووصله البخاري في مستخرجه. قال شراح الصحيح: المراد بالسعي المنفي هو شدة المشي والعدو. فهو، رضي الله عنه، لم ينف سنية السعي المجرد، بل مجاوزة الوادي بقوة وعدو شديد، إذ أصل السعي هديه صلى الله عليه وسلم، والله أعلم. أبو نعيم
[ ص: 350 ] الثالث: في عن البخاري في قصة ابن عباس هاجر أم إسماعيل: إن الطواف بينهما مأخوذ من طوافها وتزدادها في طلب الماء. ولفظه: وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى - أو قال: يتلبط - فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا؟ فلم تر أحدا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة، فقامت عليها، ونظرت هل ترى أحدا؟ فلم تر أحدا، ففعلت ذلك سبع مرات.
قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: ابن عباس: المروة سمعت صوتا... » الحديث. « فذلك سعي الناس بينهما فلما أشرفت على
قال لما ترددت ابن كثير: هاجر في هذه البقعة المشرفة بين الصفا والمروة، تطلب الغوث من الله تعالى متذللة، خائفة، مضطرة، فقيرة إلى الله عز وجل، كشف تعالى كربتها، وآنس غربتها، وفرج شدتها، وأنبع لها زمزم التي طعامها طعام طعم. وشفاء سقم. فالساعي بينهما ينبغي له أن يستحضر فقره وذله وحاجته إلى الله في هداية قلبه، وصلاح حاله، وغفران ذنبه، وأنه يلتجئ إلى الله عز وجل لتفريج ما هو به من النقائص والعيوب، وأن يهديه إلى الصراط المستقيم، وأن يثبته عليه إلى مماته، وأن يحوله من حاله الذي هو عليه - من الذنوب والمعاصي - إلى حال الكمال والغفران والسداد والاستقامة، كما فعل بهاجر عليها السلام.