[ ص: 244 ] القول في تأويل قوله تعالى :
[124 ] وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين
"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" لما عاب سبحانه أهل الضلال ، وكان جلهم من ذرية إبراهيم عليه السلام ، وجميع طوائف الملل تعظمه ومنهم العرب ، وبيته الذي بناه أكبر مفاخرهم وأعظم مآثرهم- ذكر الجميع ما أنعم به عليه تذكيرا يؤدي إلى ثبوت هذا الدين باطلاع هذا النبي الأمي ، الذي لم يخالط عالما قط ، على ما لا يعلمه إلا خواص العلماء . وذكر البيت الذي بناه فجعله عماد صلاحهم ، وأمر بأن يتخذ بعض ما هناك مصلى ، تعظيما لأمره وتفخيما لعلي قدره ، وفي التذكير بوفائه بعد ذكر الذين وفوا بحق التلاوة ، وبعد دعوة بني إسرائيل عامة إلى الوفاء بالشكر- حث على الاقتداء به . وكذا في ذكر الإسلام والتوحيد ، هز لجميع من يعظمه إلى اتباعه في ذلك . ذكره البقاعي.
و "إذ" منصوب على المفعولية بمضمر مقدم خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين. أي واذكر لهم وقت ابتلائه عليه السلام ، ليتذكروا بما وقع فيه من الأمور الداعية إلى التوحيد ، الوازعة عن الشرك ، فيقبلوا الحق ويتركوا ما هم فيه من الباطل . ولا يبعد أن ينتصب بمضمر معطوف على "اذكروا" خوطب به بنو إسرائيل ليتأملوا فيما يحكى ، عمن ينتمون إلى ملته عن إبراهيم وبنيه عليهم السلام ، من الأفعال والأقوال ، فيقتدوا بهم ويسيروا سيرتهم . أي واذكروا إذ ابتلى أباكم إبراهيم ، فأتم ما ابتلاه به . فما لكم أنتم لا تقتدون به فتفعلوا عند الابتلاء فعله، في إيفاء العهد والثبات على الوعد ، لأجازيكم على ذلك جزاء المحسنين؟ والابتلاء في الأصل، الاختبار . أي تطلب الخبرة بحال المختبر بتعريضه لأمر يشق عليه ، غالبا ، فعله أو تركه . والاختبار منا لظهور ما لم نعلم . ومن الله لإظهار ما قد علم . وعاقبه الابتلاء ظهور الأمر الخفي في الشاهد والغائب جميعا ، فلذا تجوز إضافته إلى الله تعالى . وقوله تعالى "بكلمات" أي بشرائع : أوامر ونواه . وللمفسرين أقاويل فيها وفي [ ص: 245 ] تعدادها . قال ولا يجوز الجزم بشيء مما ذكروه منها أنه المراد على التعيين ، إلا بحديث أو إجماع . قال : ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له . انتهى . ابن جرير:
وعندي أن الأقرب في معنى الكلمات هو ابتلاؤه بالإسلام ، فأسلم لرب العالمين وابتلاؤه بالهجرة ، فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بالشام مهاجرا إلى الله . وابتلاؤه بالنار فصبر عليها ، ثم ابتلاؤه بالختان فصبر عليه ، ثم ابتلاؤه بذبح ابنه فسلم واحتسب .
كما يؤخذ ذلك من تتبع سيرته في التنزيل العزيز ، وسفر التكوين من التوراة . ففيهما بيان ما ذكرناه في شأنه عليه الصلاة والسلام . من قيامه بتلك الكلمات حق القيام ، وتوفيتهن أحسن الوفاء . وهذا معنى قوله تعالى "فأتمهن" كقوله تعالى : وإبراهيم الذي وفى والإتمام التوفية .
"قال" جملة مستأنفة وقعت جوابا عن سؤال نشأ من الكلام . فكأنه قيل : فما جوزي على شكره ؟ قيل : قال له ربه: إني جاعلك للناس إماما أي قدوة لمن بعدك . والإمام اسم لمن يؤتم به ، ولم يبعث بعده نبي إلا كان مأمورا باتباع ملته ، وكان من ذريته . كما قال تعالى : وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب "قال" أي إبراهيم "ومن ذريتي" أي واجعل من ذريتي أئمة "قال لا ينال" أي قد أجبتك وعاهدتك بأن أحسن إلى ذريتك . لكن لا ينال "عهدي" أي الذي عهدته إليك بالإمامة "الظالمين" أي منهم . لأنهم نفوا أنفسهم عنك في أبوة الدين . ففي قوله "لا ينال" .. إلخ إجابة خفية لدعوته عليه السلام . وعدة إجمالية منه تعالى بتشريف بعض ذريته بنيل عهد الإمامة . كما قال تعالى : وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وفي ذلك أتم ترغيب في التخلق بوفائه ، [ ص: 246 ] لا سيما للذين دعوا قبلها إلى الوفاء بالعهد ، وإشارة إلى أنهم إن شكروا أبقى رفعتهم كما أدام رفعته ، وإن ظلموا لم تنلهم دعوته ، فضربت عليهم الذلة وما معها ، ولا يجزى أحد عنهم شيئا ولا هم ينصرون . وقرئ "الظالمون" على أن "عهدي" مفعول مقدم اهتماما ورعاية للفواصل .
وقد استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن الظالم ليس بأهل للإمامة . والكشاف أوسع المقال ، في ذلك ، هنا ، وأبدع في إيراد الشواهد . كما أن الشيعة استدلت بها على صحة قولهم في وجوب العصمة في الأئمة ، ظاهرا وباطنا . على ما نقله الرازي عنهم وحاورهم .
أقول : إن استدلال الفرقتين على مدعاهما وقوف مع عموم اللفظ . إلا أن الآية الكريمة بمعزل عن إرادة خلافة السلطنة والملك .
المراد بالعهد ، تلك الإمامة المسؤول عنها ، وهل كانت إلا الإمامة في الدين وهي النبوة التي حرمها الظالمون من ذريته ؟ كما قال تعالى : وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين ولو دلت الآية على ما ادعوا لخالفه الواقع . . . فقد نال الإمامة الدنيوية كثير من الظالمين . فظهر أن المراد من العهد إنما هو الإمامة في الدين خاصة . والاحتجاج بها على عدم صلاحية الظالم للولاية تمحل . لأنه اعتبار لعموم اللفظ من غير نظر إلى السبب ولا إلى السياق ؛ أو ذهاب إلى أن الخبر في معنى الأمر بعدم تولية الظالم . كما قاله بعضهم . وهو أشد تمحلا . ومعلوم أن الإمام لا بد أن يكون من أهل العدل والعمل بالشرع ، كما ورد . ومتى زاغ عن ذلك كان ظالما ، والبحث في ذلك له غير هذا المقام . وبالله التوفيق .