إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم والذين يصدقون بيوم الدين والذين هم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم بشهاداتهم قائمون والذين هم على صلاتهم يحافظون أولئك في جنات مكرمون فمال الذين كفروا قبلك مهطعين عن اليمين وعن الشمال عزين أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم كلا إنا خلقناهم مما يعلمون فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين فذرهم [ ص: 363 ] يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون
قوله تعالى: إن الإنسان خلق هلوعا قال عنى به مقاتل: أمية بن خلف الجمحي . وفي الهلوع سبعة أقوال .
أحدها: أنه الموصوف بما يلي هذه الآية، رواه عطية عن وبه قال ابن عباس، أبو عبيدة، والزجاج .
والثاني: أنه الحريص على ما لا يحل له، رواه عن أبو صالح ابن عباس .
والثالث: البخيل، قاله الحسن، والضحاك .
والرابع: الشحيح، قاله ابن جبير .
والخامس: الشره، قاله مجاهد .
والسادس: الضجور، قاله عكرمة، وقتادة، ومقاتل، والفراء .
والسابع: الشديد الجزع، قاله ابن قتيبة .
قوله تعالى: إذا مسه الشر أي: أصابه الفقر "جزوعا" لا يصبر، ولا يحتسب "وإذا مسه الخير" أصابه المال "منوعا" بمنعه من حق الله عز وجل "إلا المصلين" وهم أهل الإيمان بالله . وإنما استثنى الجمع من الإنسان، لأنه اسم جنس "الذين هم على صلاتهم دائمون" وفيهم ثلاثة أقوال .
أحدها: أنهم الذين يحافظون على المكتوبات، وهو معنى قول ابن مسعود .
والثاني: أنهم لا يلتفتون عن أيمانهم وشمائلهم في الصلاة، قاله واختاره عقبة بن عامر، قال: ويكون اشتقاقه من الدائم، وهو الساكن، كما جاء [ ص: 364 ] في الحديث الزجاج . أنه نهى عن البول في الماء الدائم .
والثالث: أنهم الذين يكثرون فعل التطوع، قاله ابن جريج . والذين في أموالهم حق معلوم قد سبق شرح هذه الآية والتي بعدها في [الذاريات: 19] وبينا معنى "يوم الدين" في "الفاتحة" . وما بعد هذا قد شرحناه في [المؤمنين: 7 8] إلى قوله تعالى: لأماناتهم قرأ وحده: "لأمانتهم"، ابن كثير "والذين هم بشهاداتهم" قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، عن وأبو بكر "بشهادتهم" على التوحيد . وقرأ عاصم: حفص عن "بشهاداتهم" جمعا عاصم: "قائمون" أي: يقومون فيها بالحق ولا يكتمونها "فمال الذين كفروا قبلك مهطعين" نزلت في جماعة من الكفار جلسوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم يستهزؤون بالقرآن، ويكذبون به . قال والمهطع: المقبل ببصره على الشيء لا يزايله، وكانوا ينظرون إلى النبي نظر عداوة . وقد سبق الخلاف في قوله تعالى: الزجاج: مهطعين [إبراهيم: 43،والقمر: 8] .
قوله: عن اليمين وعن الشمال عزين . قال العزون: الحلق، الجماعات، واحدتها: عزة، وكانوا يجتمعون حول النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون: إن دخل هؤلاء الجنة، كما يقول الفراء: محمد صلى الله عليه وسلم فلندخلنها قبلهم، فنزل قوله تعالى: أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم وقرأ ابن مسعود، والحسن، وطلحة بن مصرف، والأعمش، والمفضل عن "أن يدخل" بفتح الياء، وضم الخاء . وقال عاصم عزين جمع عزة، مثل ثبة، وثبين، فهي [ ص: 365 ] جماعات في تفرقة . أبو عبيدة:
قوله تعالى: كلا أي: لا يكون ذلك "إنا خلقناهم مما يعلمون" فيه قولان .
أحدهما: من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، فالمعنى: لا يستوجب الجنة أحد بما يدعيه من الشرف على غيره، إذ الأصل واحد، وإنما يستوجبها بالطاعة .
والثاني: إنا خلقناهم من أقذار . فبماذا يستحقون الجنة ولم يؤمنوا؟! وقد روى بشر بن جحاش عن النبي صلى الله عليه وسلم "إنا خلقناهم مما يعلمون" ثم بزق، قال: يقول الله عز وجل: أنى تعجزني، وقد خلقتك من مثل هذه؟! حتى إذا سويتك، وعدلتك، مشيت بين بردين، وللأرض منك [ ص: 366 ] وئيد، فجمعت، ومنعت، حتى إذا بلغت التراقي قلت: أتصدق، وأنى أوان الصدقة؟! . أنه تلا هذه الآية
قوله تعالى: فلا أقسم قد تكلمنا عليه في [الحاقة: 38] والمراد بالمشارق، والمغارب: شرق كل يوم ومغربه "إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم" أي: نخلق أمثل منهم، وأطوع لله حين عصوا وما نحن بمسبوقين مفسر في [الواقعة: 60] "فذرهم يخوضوا" في باطلهم "ويلعبوا" أي: يلهوا في دنياهم "حتى يلاقوا" وقرأ ابن محيصن "يلقوا يومهم الذي يوعدون" وهو يوم القيامة . وهذا لفظ أمر، معناه الوعيد . وذكر المفسرون أنه منسوخ بآية السيف . وإذا قلنا: إنه وعيد بلقاء يوم القيامة، فلا وجه للنسخ "يوم يخرجون من الأجداث سراعا" أي: يخرجون بسرعة كأنهم يستبقون .
قوله تعالى: كأنهم إلى نصب قرأ ابن عامر، وحفص عن بضم النون والصاد . وقال عاصم وهو واحد الأنصاب، وهي آلهتهم التي كانوا يعبدونها . فعلى هذا يكون المعنى: كأنهم إلى آلهتهم التي كانوا يعبدونها يسرعون . وقرأ ابن جرير: ابن كثير، وعاصم، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، بفتح النون وسكون الصاد، وهي في معنى القراءة الأولى، إلا أنه مصدر . كقول القائل: نصبت الشيء أنصبه نصبا . قال والكسائي معناه: كأنهم إلى شيء منصوب يسرعون . وقال قتادة: تأويله: كأنهم إلى صنم منصوب يسرعون . وقرأ ابن جرير: [ ص: 367 ] ابن عباس، وأبو مجلز، "نصب" برفع النون، وإسكان الصاد . وقرأ والنخعي الحسن، وأبو عثمان النهدي، وعاصم الجحدري "إلى نصب" بفتح النون والصاد جميعا . قال النصب: حجر ينصب أو صنم، يقال: نصب، ونصب، ونصب . وقال ابن قتيبة: النصب والنصب واحد، وهو مصدر، والجمع: الأنصاب . وقال الفراء: النصب، والنصب: العلم المنصوب . قال الزجاج: والإيفاض: الإسراع . الفراء:
قوله تعالى: ترهقهم ذلة قرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وعمرو ابن دينار "ذلة ذلك اليوم" بغير تنوين، وبخفض الميم . وباقي السورة قد تقدم بيانه [المعارج: 42] .