وهي مدنية بإجماعهم
وذكر أهل التفسير أنها نزلت في عبد الله بن أبي ونظرائه . وكان السبب أن خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في خلق كثير من المنافقين إلى عبد الله المريسيع، وهو ماء لبني المصطلق طلبا للغنيمة، لا للرغبة في الجهاد، لأن السفر قريب . فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوه، أقبل رجل من جهينة، يقال له: سنان، وهو حليف لعبد الله بن أبي، ورجل من بني غفار يقال له: جهجاه بن سعيد، وهو أجير لاستقاء الماء، فدار بينهما كلام، فرفع الغفاري يده فلطم الجهني، فأدماه، فنادى الجهني: يا آل لعمر بن الخطاب الخزرج، فأقبلوا، ونادى الغفاري: يا آل قريش ، فأقبلوا، فأصلح الأمر قوم من المهاجرين . فبلغ الخبر عبد الله ابن أبي ، فقال وعنده جماعة من المنافقين: والله ما مثلكم ومثل هؤلاء الرهط من قريش إلا مثل ما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، ولكن هذا فعلكم بأنفسكم، آويتموهم في منازلكم، وأنفقتم عليهم أموالكم، فقووا وضعفتم . وايم الله: لو أمسكتم أيديكم لتفرقت عن هذا جموعه، ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، وكان في القوم وهو غلام يومئذ لا يؤبه له، فقال زيد بن أرقم، لعبد الله: أنت والله الذليل القليل، فقال: إنما كنت ألعب، فأقبل زيد بالخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: دعني أضرب عنقه . فقال: إذن ترعد له آنف كبيرة، قال: فإن كرهت أن يقتله رجل من المهاجرين، فمر أو سعد بن عبادة، أو محمد بن مسلمة، فليقتله، فقال: إذن يتحدث [ ص: 272 ] الناس أن عباد بن بشر محمدا يقتل أصحابه، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي ، فأتاه، فقال: أنت صاحب هذا الكلام؟ فقال: والذي أنزل عليك ما قلت شيئا من هذا، وإن زيدا لكذاب، فقال من حضر: لا يصدق عليه كلام غلام، عسى أن يكون قد وهم، فعذره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفشت الملامة من الأنصار وكذبوه، وقال له عمه: ما أردت إلا أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، ومقتوك! فاستحيا لزيد، زيد، وجلس في بيته . فبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي ما كان من أمر أبيه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي ، لما بلغك عنه . فإن كنت فاعلا فمرني، فأنا أحمل إليك رأسه، فإني أخشى أن يقتله غيري، فلا تدعني نفسي حتى أقتل قاتله، فأدخل النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل تحسن صحبته ما بقي معنا" وأنزل الله سورة [المنافقين] في تصديق زيد، وتكذيب فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها عليه، فقال: إن الله قد صدقك . ولما أراد عبد الله، عبد الله بن أبي أن يدخل المدينة جاء ابنه، فقال: ما وراءك، قال: مالك ويلك؟ قال: والله لا تدخلها أبدا إلا بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلم اليوم من الأعز، ومن الأذل، فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن خل عنه حتى يدخل، فلما نزلت السورة وبان كذبه قيل له: يا عبد الله أبا حباب: إنه قد نزلت فيك آيات شداد، فاذهب إلى رسول الله ليستغفر لك، فلوى به رأسه، فذلك قوله تعالى: لووا رءوسهم وقيل: الذي قال له هذا [ ص: 273 ] عبادة بن الصامت .
بسم الله الرحمن الرحيم
إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون [ ص: 274 ] قوله تعالى: إذا جاءك المنافقون يعني: عبد الله بن أبي وأصحابه قالوا نشهد إنك لرسول الله وها هنا تم الخبر عنهم . ثم ابتدأ فقال تعالى: والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون وإنما جعلهم كاذبين، لأنهم أضمروا غير ما أظهروا . قال إنما كذب ضميرهم . الفراء: اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله قد ذكرناه في [المجادلة: 16] . قال وهذه الآية تدل على أن قول القائل: "أشهد" يمين، لأنهم قالوا: "نشهد" فجعله يمينا بقوله تعالى: القاضي أبو يعلى: اتخذوا أيمانهم جنة وقد قال أحمد، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة: أشهد، وأقسم، وأعزم، وأحلف، كلها أيمان . وقال "أقسم" ليس بيمين . وإنما قوله: ( أقسم بالله) يمين إذا أراد اليمين . الشافعي:
قوله تعالى: ذلك أي: ذلك الكذب بأنهم آمنوا باللسان ثم كفروا في السر فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون الإيمان والقرآن وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم يعني: أن لهم أجساما ومناظر . قال كان [ ص: 275 ] ابن عباس: عبد الله بن أبي جسيما فصيحا، ذلق اللسان، فإذا قال سمع النبي صلى الله عليه وسلم قوله . وقال غيره: المعنى: تصغي إلى قولهم، فتحسب أنه حق كأنهم خشب قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: ( خشب ) بضم الخاء، والشين جميعا، وهو جمع خشبة . مثل ثمرة، وثمر . وقرأ وحمزة: بضم الخاء، وتسكين الشين، مثل: بدنة، وبدن، وأكمة، وأكم . وعن الكسائي: ابن كثير، وأبي عمرو، مثله . وقرأ أبو بكر الصديق، وعروة، "خشب" بفتح الخاء، والشين جميعا . وقرأ وابن سيرين: أبو نهيك، ، وأبو المتوكل وأبو عمران بفتح الخاء، وتسكين الشين، فوصفهم الله بحسن الصورة، وإبانة المنطق، ثم أعلم أنهم في ترك التفهم والاستبصار بمنزلة الخشب . والمسندة: الممالة إلى الجدار . والمراد: أنها ليست بأشجار تثمر وتنمي، بل خشب مسندة إلى حائط . ثم عابهم بالجبن فقال تعالى: يحسبون كل صيحة عليهم أي: لا يسمعون صوتا إلا ظنوا أنهم قد أتوا لما في قلوبهم من الرعب أن يكشف الله أسرارهم، وهذه مبالغة في الجبن . وأنشدوا في هذا المعنى:
ولو أنها عصفورة لحسبتها مسومة تدعو عبيدا وأزنما
أي: لو طارت عصفورة لحسبتها من جبنك خيلا تدعو هاتين القبيلتين
قوله تعالى هم العدو فاحذرهم أي: لا تأمنهم على سرك، لأنهم [ ص: 276 ] عيون لأعدائك من الكفار قاتلهم الله أنى يؤفكون مفسر في [براءة: 30]