علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة [ ص: 64 ] المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى
قوله تعالى: علمه شديد القوى وهو جبريل عليه السلام علم النبي صلى الله عليه وسلم; قال وأصل هذا من "قوى الحبل" وهي طاقاته، الواحدة: قوة ابن قتيبة: ذو مرة أي: ذو قوة ، وأصل المرة: الفتل . قال المفسرون: وكان من قوته أنه قلع قريات لوط وحملها على جناحه فقلبها، وصاح بثمود فأصبحوا خامدين .
قوله تعالى: فاستوى وهو بالأفق الأعلى فيه قولان .
أحدهما: فاستوى جبريل، "وهو" يعني النبي صلى الله عليه وسلم; والمعنى أنهما استويا بالأفق الأعلى لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله الفراء .
[ ص: 65 ] والثاني: فاستوى جبريل، وهو- يعني جبريل- بالأفق الأعلى على صورته الحقيقية، لأنه كان يتمثل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هبط عليه بالوحي في صورة رجل، وأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يراه على حقيقته، فاستوى في أفق المشرق، فملأ الأفق; فيكون المعنى: فاستوى جبريل بالأفق الأعلى في صورته، هذا قول . قال الزجاج : والأفق الأعلى: هو مطلع الشمس . وقال غيره: إنما قيل له: "الأعلى" لأنه فوق جانب المغرب في صعيد الأرض لا في الهواء . مجاهد
قوله تعالى: ثم دنا فتدلى قال المعنى ثم تدلى فدنا، ولكنه جائز أن تقدم أي الفعلين شئت إذا كان المعنى فيهما واحدا، فتقول: قد دنا فقرب، وقرب فدنا، وشتم فأساء، وأساء فشتم، ومنه قوله: الفراء: اقتربت الساعة وانشق القمر [القمر: 1] المعنى- والله أعلم-: انشق القمر واقتربت الساعة . قال المعنى: تدلى فدنا، لأنه تدلى للدنو، ودنا بالتدلي . وقال ابن قتيبة، دنا بمعنى قرب، وتدلى: زاد في القرب، ومعنى اللفظتين واحد . وقال غيرهم: أصل التدلي: النزول إلى الشيء حتى يقرب منه، فوضع موضع القرب . الزجاج:
وفي المشار إليه بقوله: "ثم دنا" ثلاثة أقوال .
أحدها، أنه الله عز وجل . روى البخاري في "الصحيحين" من حديث ومسلم شريك بن أبي نمر عن قال: دنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى . وروى أنس بن مالك عن أبو سلمة ابن عباس: "ثم دنا" [ ص: 66 ] قال: دنا ربه فتدلى، وهذا اختيار قال: دنا الرب من مقاتل . محمد ليلة أسري به، فكان منه قاب قوسين أو أدنى . وقد كشفت هذا الوجه في كتاب "المغني" وبينت أنه ليس كما يخطر بالبال من قرب الأجسام وقطع المسافة، لأن ذلك يختص بالأجسام، والله منزه عن ذلك .
والثاني: أنه محمد دنا من ربه، قاله ابن عباس، والقرظي .
والثالث: أنه جبريل . ثم في الكلام قولان .
أحدهما: دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض، فنزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله الحسن، والثاني: دنا وقتادة . جبريل من ربه عز وجل فكان منه قاب قوسين أو أدنى، قاله مجاهد .
قوله تعالى: فكان قاب قوسين أو أدنى وقرأ ابن مسعود، وأبو رزين: "فكان قاد قوسين" بالدال . وقال القاب والقاد: القدر . وقال [ ص: 67 ] أبو عبيدة: القاب: القدر . ويقال: بل القاب: ما بين المقبض والسية، ولكل قوس قابان . وقال ابن فارس: سية القوس: ما عطف من طرفيها . ابن قتيبة:
وفي المراد بالقوسين قولان .
أحدهما: أنها القوس التي يرمى بها، قاله واختاره ابن عباس، فقال: قدر قوسين . وقال ابن قتيبة، أراد بالقوسين: قوسا واحدا . الكسائي:
والثاني: أن القوس: الذراع; فالمعنى: كان بينهما قدر ذراعين، حكاه وهو قول ابن قتيبة، ابن مسعود، وسعيد بن جبير، قال والسدي . دنا ابن مسعود: جبريل منه حتى كان قدر ذراع أو ذراعين .
قوله تعالى: أو أدنى فيه قولان .
أحدهما: أنها بمعنى "بل"، قاله والثاني: أنهم خوطبوا على لغتهم; والمعنى: كان على ما تقدرونه أنتم قدر قوسين أو أقل، هذا اختيار مقاتل . الزجاج .
قوله تعالى: فأوحى إلى عبده ما أوحى فيه ثلاثة أقوال .
أحدها: أوحى الله إلى محمد كفاحا بلا واسطة، وهذا على قول من يقول: إنه كان في ليلة المعراج .
والثاني: أوحى جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما أوحى الله إليه، رواه عن عطاء ابن عباس .
والثالث: أوحى [الله] إلى جبريل ما يوحيه، روي عن رضي الله عنها، عائشة والحسن، [ ص: 68 ] قوله تعالى: وقتادة . ما كذب الفؤاد ما رأى قرأ ، أبو جعفر وهشام عن ابن عامر، عن وأبان " ما كذب" بتشديد الذال; وقرأ الباقون بالتخفيف . فمن شدد أراد: ما أنكر فؤاده ما رأته عينه; ومن خفف أراد: ما أوهمه فؤاده أنه رأى، ولم ير، بل صدق الفؤاد رؤيته . عاصم:
وفي الذي رأى قولان .
أحدهما: أنه رأى ربه عز وجل، قاله ابن عباس، [وأنس] والحسن، وعكرمة .
والثاني: أنه رأى جبريل في صورته التي خلق عليها، قاله ابن مسعود وعائشة .
قوله تعالى: "أفتمارونه" . وقرأ حمزة، والكسائي، والمفضل، وخلف، ويعقوب: "أفتمرونه" . قال معنى ابن قتيبة: "أفتمارونه" أفتجادلونه، من المراء، ومعنى " أفتمرونه ": أفتجحدونه .
قوله تعالى: ولقد رآه نزلة أخرى قال أي: رآه مرة أخرى . قال الزجاج: رأى ابن عباس: محمد ربه; وبيان هذا أنه تردد لأجل الصلوات مرارا، فرأى ربه في بعض تلك المرات مرة أخرى . قال إن الله تعالى قسم كلامه ورؤيته بين كعب: محمد وموسى، فرآه محمد مرتين، وكلمه موسى مرتين . وقد [ ص: 69 ] روي عن أن هذه الرؤية ابن مسعود لجبريل أيضا، رآه على صورته التي خلق عليها .
فأما سدرة المنتهى، فالسدرة: شجرة النبق، وقد صح في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: هجر، وورقها مثل آذان الفيلة" . وفي مكانها قولان . "نبقها مثل قلال
أحدهما: أنها فوق السماء السابعة، وهذا مذكور في "الصحيحين" من حديث مالك بن صعصعة . قال وهي عن يمين العرش . مقاتل:
والثاني: أنها في السماء السادسة، أخرجه في أفراده عن مسلم وبه قال ابن مسعود قال المفسرون: وإنما سميت سدرة المنتهى، لأنه إليها منتهى ما يصعد به من الأرض، فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها، وإليها ينتهي علم جميع الملائكة . الضحاك .
قوله تعالى: عندها وقرأ معاذ القارئ، وابن يعمر، وأبو نهيك: "عنده" بهاء مرفوعة على ضمير مذكر جنة المأوى قال هي جنة يأوي إليها ابن عباس: جبريل والملائكة . وقال هي التي يصير إليها أهل الجنة . وقال الحسن: هي جنة إليها تأوي أرواح الشهداء . وقرأ مقاتل: سعيد بن المسيب، والشعبي، ، وأبو المتوكل وأبو الجوزاء، "جنه المأوى" بهاء [ ص: 70 ] صحيحة مرفوعة . قال وأبو العالية: يريدون أجنه، وهي شاذة . وقيل: معنى "عندها": أدركه المبيت يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثعلب:
قوله تعالى: إذ يغشى السدرة ما يغشى روى في أفراده من حديث مسلم قال: غشيها فراش من ذهب . وفي حديث ابن مسعود مالك بن صعصعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وقال "لما غشيها من أمر الله ما غشيها، تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن يصفها من حسنها . الحسن، تغشاها الملائكة أمثال الغربان حين يقعن على الشجرة . وقال ومقاتل: [غشيها] نور رب العالمين . الضحاك:
قوله تعالى: ما زاغ البصر أي: ما عدل بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينا ولا شمالا وما طغى أي: ما زاد ولا جاوز ما رأى; وهذا وصف أدبه صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام .
لقد رأى من آيات ربه الكبرى فيه قولان . أحدهما: [لقد] رأى من آيات ربه العظام . والثاني: لقد رأى من آيات ربه [الآية] الكبرى . [ ص: 71 ] وللمفسرين في المراد بما رأى من الآيات ثلاثة أقوال .
أحدها: أنه رأى رفرفا أخضر من الجنة قد سد الأفق، قاله ابن مسعود .
والثاني: أنه رأى جبريل في صورته التي يكون عليها في السماوات، قاله ابن زيد .
والثالث: أنه رأى من أعلام ربه وأدلته [الأعلام والأدلة] الكبرى، قاله ابن جرير .