وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين . قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم . يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم . ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين .
قوله تعالى: وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن وبخ الله عز وجل بهذه الآية كفار قريش بما آمنت به الجن . وفي سبب صرفهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أقوال .
أحدها: أنهم صرفوا إليه بسبب ما حدث من رجمهم بالشهب . روى البخاري في "الصحيحين" من حديث ومسلم قال: ابن عباس سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين، فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب، قالوا: ما ذاك إلا من شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الأمر، فمر النفر الذين توجهوا نحو تهامة بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو بـ "نخلة" وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا [ ص: 388 ] القرآن تسمعوا له، فقالوا: هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك رجعوا إلى قومهم فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد [الجن: 1 -2] . فأنزل الله على نبيه قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن [الجن: 1] . وروى انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى عن سعيد بن جبير قال: ابن عباس ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن، ولا رآهم، وإنما أتوه وهو بـ "نخلة" فسمعوا القرآن .
والثاني: أنهم صرفوا إليه لينذرهم، وأمر أن يقرأ عليهم القرآن، هذا مذهب جماعة، منهم وفي أفراد قتادة . من حديث مسلم قال: علقمة لعبد الله: من كان منكم مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ فقال: ما كان منا معه أحد، فقدناه ذات ليلة ونحن بمكة، فقلنا: اغتيل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو استطير، فانطلقنا نطلبه في الشعاب، فلقيناه مقبلا من نحو حراء، فقلنا: يا رسول الله، أين كنت؟ لقد أشفقنا عليك، وقلنا له: بتنا الليلة بشر ليلة بات بها قوم حين فقدناك، فقال: "إنه أتاني داعي الجن، فذهبت أقرئهم القرآن"، فذهب بنا، فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم . وقال قتادة: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني أمرت أن أقرأ على الجن، فأيكم يتبعني؟" فأطرقوا، ثم استتبعهم فأطرقوا، ثم استتبعهم الثالثة فأطرقوا، فأتبعه فدخل نبي الله صلى الله عليه وسلم شعبا يقال له: عبد الله بن مسعود، "شعب الحجون"، وخط على عبد الله خطا ليثبته به، قال: فسمعت لغطا شديدا حتى خفت على نبي الله صلى الله عليه وسلم، فلما رجع قلت: يا نبي الله، ما اللغط [ ص: 389 ] الذي سمعت؟ قال: "اجتمعوا إلي في قتيل كان بينهم، فقضيت بينهم بالحق" قلت
والثالث: أنهم مروا به وهو يقرأ، فسمعوا القرآن . فذكر بعض المفسرين أنه لما يئس من أهل مكة أن يجيبوه، خرج إلى الطائف ليدعوهم إلى الإسلام- وقيل: ليلتمس نصرهم- وذلك بعد موت أبي طالب، فلما كان ببطن نخلة قام يقرأ القرآن في صلاة الفجر، فمر به نفر من أشراف جن نصيبين، فاستمعوا القرآن . فعلى هذا القول والقول الأول، لم يعلم بحضورهم حتى أخبره الله تعالى; وعلى القول الثاني، علم بهم حين جاءوا . وفي المكان الذي سمعوا فيه تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم قولان . أحدهما: الحجون، وقد ذكرناه عن وبه قال ابن مسعود، والثاني: قتادة . بطن نخلة، وقد ذكرناه عن وبه قال ابن عباس، مجاهد .
وأما النفر، فقال : يقال: إن النفر ما بين الثلاثة إلى العشرة . وللمفسرين في عدد هؤلاء النفر ثلاثة أقوال . ابن قتيبة
أحدها: أنهم كانوا سبعة، قاله ابن مسعود، وزر بن حبيش، ورواه ومجاهد، عن عكرمة ابن عباس .
[ ص: 390 ] والثاني: تسعة، رواه عن أبو صالح ابن عباس .
والثالث: اثني عشر ألفا، روي عن ولا يصح، لأن النفر لا يطلق على الكثير . عكرمة،
قوله تعالى: فلما حضروه أي: حضروا استماعه، و قضي يعني: فرغ من تلاوته ولوا إلى قومهم منذرين أي: محذرين عذاب الله عز وجل إن لم يؤمنوا .
وهل أنذروا قومهم من قبل أنفسهم، أم جعلهم رسول الله رسلا إلى قومهم؟ فيه قولان .
قال كان دين أولئك الجن اليهودية، فلذلك قالوا: عطاء: من بعد موسى .
قوله تعالى: أجيبوا داعي الله يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم . وهذا يدل على أنه أرسل إلى الجن والإنس .
قوله تعالى: يغفر لكم من ذنوبكم "من" هاهنا صلة .
[ ص: 391 ] قوله تعالى: فليس بمعجز في الأرض أي: لا يعجز الله تعالى وليس له من دونه أولياء أي: أنصار يمنعونه من عذاب الله تعالى أولئك الذين لا يجيبون الرسل في ضلال مبين .