وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب . فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس [ ص: 275 ] كمثله شيء وهو السميع البصير . له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم . شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب . وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب .
قوله تعالى: وما اختلفتم فيه من شيء أي: من أمر الدين; وقيل: بل هو عام فحكمه إلى الله فيه قولان . أحدهما: علمه عند الله . والثاني: هو يحكم فيه . قال وذلك أن أهل مقاتل: مكة كفر بعضهم بالقرآن، وآمن بعضهم، فقال الله: أنا الذي أحكم فيه ذلكم الله الذي يحكم بين المختلفين هو ربي عليه توكلت في مهماتي وإليه أنيب أي: أرجع في المعاد .
فاطر السماوات قد سبق بيانه [الأنعام: 14]، جعل لكم من أنفسكم أي: من مثل خلقكم أزواجا نساء ومن الأنعام أزواجا أصنافا ذكورا وإناثا; والمعنى أنه خلق لكم الذكر والأنثى من الحيوان كله يذرؤكم فيها ثلاثة أقوال . أحدها: يخلقكم، قاله والثاني: يعيشكم، قاله السدي . والثالث: يكثركم، قاله مقاتل . و [في قوله] الفراء . فيه قولان .
أحدهما: أنها على أصلها، قاله الأكثرون . فعلى هذا في هاء الكناية ثلاثة أقوال . [ ص: 276 ] أحدها: أنها ترجع إلى بطون الإناث وقد تقدم ذكر الأزواج، قاله فعلى هذا يكون المعنى: يخلقكم في بطون النساء، وإلى نحو هذا ذهب زيد بن أسلم . ، فقال: يخلقكم في الرحم أو في الزوج; وقال ابن قتيبة يخلقكم فيما جعل لكم من أزواجكم، ويعيشكم فيما جعل لكم من الأنعام . ابن جرير:
والثاني: أنها ترجع إلى الأرض، قاله ابن زيد; فعلى هذا يكون المعنى: يذرؤكم فيما خلق من السموات والأرض .
والثالث: أنها ترجع إلى الجعل المذكور; ثم في معنى الكلام قولان . أحدهما: يعيشكم فيما جعل من الأنعام، قاله والثاني: يخلقكم في هذا الوجه الذي ذكر من جعل الأزواج، قاله مقاتل . الواحدي .
والقول الثاني: أن "فيه" بمعنى "به"; والمعنى: يكثركم بما جعل لكم، قاله الفراء، والزجاج .
قوله تعالى: ليس كمثله شيء قال : أي: ليس كهو شيء، ابن قتيبة والعرب تقيم المثل مقام النفس، فتقول: مثلي لا يقال له هذا، أي: أنا لا يقال لي هذا، وقال : الكاف مؤكدة، والمعنى: ليس مثله شيء . وما بعد هذا قد سبق بيانه [الزمر: 63، الرعد: 26] إلى قوله: الزجاج شرع لكم أي: بين وأوضح من الدين ما وصى به نوحا وفيه ثلاثة أقوال .
أحدها: أنه تحليل الحلال وتحريم الحرام، قاله . والثاني: تحريم الأخوات والأمهات، قاله قتادة الحكم . والثالث: التوحيد وترك الشرك .
قوله تعالى: والذي أوحينا إليك أي: من القرآن وشرائع الإسلام . قال : المعنى: وشرع الذي أوحينا إليك وشرع لكم ما وصى به الزجاج إبراهيم [ ص: 277 ] وموسى وعيسى . وقوله: أن أقيموا الدين تفسير قوله: وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ، وجائز أن يكون تفسيرا لـ "ما وصى به نوحا" ولقوله: والذي أوحينا إليك ولقوله: وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ، فيكون المعنى: شرع لكم ولمن قبلكم إقامة الدين وترك الفرقة، وشرع الاجتماع على اتباع الرسل . وقال مقاتل: أن أقيموا الدين يعني التوحيد ولا تتفرقوا فيه أي: لا تختلفوا كبر على المشركين أي: عظم على مشركي مكة ما تدعوهم إليه يا محمد من التوحيد .
قوله تعالى: الله يجتبي إليه أي: يصطفي من عباده لدينه من يشاء ويهدي إلى دينه، من ينيب أي: يرجع إلى طاعته .
ثم ذكر افتراقهم بعد أن أوصاه بترك الفرقة، فقال: وما تفرقوا يعني أهل الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم فيه ثلاثة أقوال .
أحدها: من بعد كثرة علمهم للبغي . والثاني: من بعد أن علموا أن الفرقة ضلال . والثالث: من بعد ما جاءهم القرآن، بغيا منهم على محمد صلى الله عليه وسلم .
[ ص: 278 ] ولولا كلمة سبقت من ربك في تأخير المكذبين من هذه الأمة إلى يوم القيامة، لقضي بينهم بإنزال العذاب على المكذبين وإن الذين أورثوا الكتاب يعني اليهود والنصارى من بعدهم أي: من بعد أنبيائهم لفي شك منه أي: من محمد صلى الله عليه وسلم .