الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون . وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير . ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين . وما أنت بهاد العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير . ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث [ ص: 309 ] فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون . فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون
قوله تعالى: يرسل الرياح وقرأ ، ابن مسعود ، وأبو رجاء والنخعي، وطلحة بن مصرف، " يرسل الريح " بغير ألف . والأعمش:
قوله تعالى: فتثير سحابا أي: تزعجه فيبسطه الله في السماء كيف يشاء إن شاء بسطه مسيرة يوم أو يومين أو أقل أو أكثر ويجعله كسفا أي: قطعا متفرقة . والأكثرون فتحوا سين " كسفا " ; وقرأ أبو رزين، وقتادة، وابن عامر، وأبو جعفر، : بتسكينها; قال وابن أبي عبلة أبو علي: يمكن أن يكون مثل سدرة وسدر، فيكون معنى القراءتين واحدا فترى الودق يخرج من خلاله وقرأ ، ابن مسعود وابن عباس، ومجاهد، " من خلله " ; وقد شرحناه في (النور: 43) وأبو العالية: فإذا أصاب به أي: بالودق; ومعنى يستبشرون يفرحون بالمطر، وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم المطر من قبله وفي هذا التكرير ثلاثة أقوال .
أحدها: أنه للتأكيد، كقوله: فسجد الملائكة كلهم أجمعون [الحجر: 30]، قاله في آخرين . الأخفش
والثاني: أن " قبل " الأولى للتنزيل، والثانية للمطر، قاله قطرب . قال والمعنى: من قبل نزول المطر، من قبل المطر، وهذا مثلما يقول القائل: آتيك من قبل أن تتكلم، من قبل أن تطمئن في مجلسك، فلا تنكر الإعادة، لاختلاف الشيئين . ابن الأنباري:
والثالث : أن الهاء في قوله: من قبله ترجع إلى الهدى وإن لم يتقدم له ذكر، فيكون المعنى: كانوا يقنطون من قبل نزول المطر، من قبل الهدى، [ ص: 310 ] فلما جاء الهدى والإسلام زال القنوط، ذكره عن ابن الأنباري أبي عمر الدوري وأبي جعفر بن قادم . والمبلسون: الآيسون وقد سبق الكلام في هذا [الأنعام: 44] .
فانظر إلى آثار رحمت الله قرأ ابن كثير، ونافع، ، وأبو عمرو عن وأبو بكر " إلى أثر " . وقرأ عاصم: ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن " إلى آثار " على الجمع والمراد بالرحمة هاهنا: المطر، وأثرها: النبت; والمعنى: انظر إلى حسن تأثيره في الأرض عاصم: كيف يحيي الأرض أي: كيف يجعلها تنبت بعد أن لم يكن فيها نبت . وقرأ عثمان بن عفان، ، وأبو رجاء وأبو عمران الجوني، وسليمان التيمي . " كيف تحيي " بتاء مرفوعة مكسورة الياء " الأرض " بفتح الضاد .
قوله تعالى: ولئن أرسلنا ريحا [أي: ريحا] باردة مضرة، والريح إذا أتت على لفظ الواحد أريد بها العذاب، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند هبوب الريح: " " اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا فرأوه مصفرا [ ص: 311 ] يعني النبت، والهاء عائدة إلى الأثر . قال المعنى: فرأوا النبت قد اصفر وجف الزجاج: لظلوا من بعده يكفرون ومعناه: ليظلن، لأن معنى الكلام الشرط والجزاء، فهم يستبشرون بالغيث، ويكفرون إذا انقطع عنهم الغيث وجف النبت . وقال غيره: المراد برحمة الله: المطر . و " ظلوا " بمعنى صاروا " من بعده " أي: من بعد اصفرار النبت يجحدون ما سلف من النعمة . وما بعد هذا مفسر في سورة (النمل: 80، 81) إلى قوله: الله الذي خلقكم من ضعف وقد ذكرنا الكلام فيه في (الأنفال: 66) قال المفسرون: المعنى: خلقكم من ماء ذي ضعف، وهو المني ثم جعل من بعد ضعف يعني ضعف الطفولة قوة الشباب، ثم جعل من بعد قوة الشباب ضعف الكبر، وشيبة، يخلق ما يشاء أي: من ضعف وقوة وشباب وشيبة وهو العليم بتدبير خلقه القدير على ما يشاء .
ويوم تقوم الساعة قال الساعة في القرآن على معنى الساعة التي تقوم فيها القيامة، فلذلك لم تعرف أي ساعة هي . الزجاج:
قوله تعالى: يقسم المجرمون أي: يحلف المشركون ما لبثوا في القبور غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون قال : يقال: أفك الرجل: إذا عدل به عن الصدق، فالمعنى أنهم قد كذبوا في هذا الوقت كما كذبوا في الدنيا . وقال غيره: أراد الله تعالى أن يفضحهم يوم القيامة بين المؤمنين، فحلفوا على شيء يبين للمؤمنين كذبهم فيه، ويستدلون على كذبهم في الدنيا . ابن قتيبة
[ ص: 312 ] ثم ذكر إنكار المؤمنين عليهم بقوله: وقال الذين أوتوا العلم والإيمان وفيهم قولان . أحدهما: أنهم الملائكة . والثاني: المؤمنون .
قوله تعالى: لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فيه قولان .
أحدهما: أن فيه تقديما وتأخيرا، تقديره: وقال الذين أوتوا العلم بكتاب الله والإيمان بالله، قاله ابن جريج في جماعة من المفسرين .
والثاني: أنه على نظمه . ثم في معناه قولان . أحدهما: لقد لبثتم في علم الله، قاله والثاني: لقد لبثتم في خبر الكتاب، قاله الفراء . . ابن قتيبة
قوله تعالى: فهذا يوم البعث أي: اليوم الذي كنتم تنكرونه ولكنكم كنتم لا تعلمون في الدنيا أنه يكون . فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم قرأ ابن كثير، ونافع، ، وأبو عمرو " لا تنفع " بالتاء . وقرأ وابن عامر: عاصم، وحمزة، بالياء، لأن التأنيث غير حقيقي . والكسائي:
قال لا يقبل من الذين أشركوا عذر ولا توبة . ابن عباس:
قوله تعالى: ولا هم يستعتبون أي: لا يطلب منهم العتبى والرجوع في الآخرة .