قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى .
قوله تعالى : " بل ألقوا " قال : دخلت " بل " لمعنى جحد في الآية الأولى ; لأن الآية الأولى إذا تؤملت وجدت مشتملة على : إما أن تلقي وإما أن لا تلقي . ابن الأنباري
قوله تعالى : " وعصيهم " قرأ ، الحسن ، وأبو رجاء العطاردي ، وأبو عمران الجوني : ( وعصيهم ) برفع العين . وأبو الجوزاء
قوله تعالى : " يخيل إليه " وقرأ أبو رزين العقيلي ، ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، والحسن ، وقتادة ، والزهري : ( تخيل ) بالتاء . " وابن أبي عبلة إليه " ; أي : [ ص: 302 ] إلى موسى . يقال : خيل إليه : إذا شبه له . وقد استدل قوم بهذه الآية على أن السحر ليس بشيء ، وقال : إنما خيل إلى موسى ، فالجواب : أنا لا ننكر أن يكون ما رآه موسى تخييلا وليس بحقيقة ، فإنه من الجائز أن يكونوا تركوا الزئبق في سلوخ الحيات حتى جرت ، وليس ذلك بحيات .
فأما السحر فإنه يؤثر ، وهو أنواع . وقد سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أثر فيه ، [ ص: 303 ] [ ص: 304 ] [ ص: 305 ] ولعن العاضهة ، وهي الساحرة .
قوله تعالى : " فأوجس في نفسه خيفة موسى " قال : أضمر في نفسه خوفا . وقال ابن قتيبة : أصلها : ( خوفة ) ، ولكن الواو قلبت ياء؛ لانكسار ما قبلها . الزجاج
وفي خوفة قولان :
أحدهما : أنه خوف الطبع البشري . [ ص: 306 ]
والثاني : أنه لما رأى سحرهم من جنس ما أراهم في العصا ، خاف أن يلتبس على الناس أمره ولا يؤمنوا ، فقيل له : " لا تخف إنك أنت الأعلى " عليهم بالظفر والغلبة ، وهذا أصح من الأول .
قوله تعالى : " وألق ما في يمينك " يعني : العصا ، " تلقف " وقرأ : ( تلقف ما ) برفع الفاء وتشديد القاف . وروى ابن عامر حفص عن : ( تلقف ) خفيفة . وكان عاصم يشدد التاء من ( تلقف ) ، يريد : تتلقف . وقرأ ابن كثير ، ابن مسعود ، وأبي بن كعب ، وسعيد بن جبير : ( تلقم ) بالميم . وقد شرحناها في ( الأعراف : 117 ) . وأبو رجاء
" إنما صنعوا كيد ساحر " قرأ ، حمزة ، والكسائي : ( كيد السحر ) . وقرأ الباقون : ( كيد ساحر ) بألف ، والمعنى : إن الذي صنعوا كيد ساحر ; أي : عمل ساحر . وقرأ وخلف ابن مسعود : ( إنما صنعوا كيد ) بنصب الدال . " وأبو عمران الجوني ولا يفلح الساحر " قال : لا يسعد حيثما كان ، وقيل : لا يفوز . وروى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " جندب بن عبد الله البجلي إذا أخذتم الساحر فاقتلوه ، ثم قرأ : ولا يفلح الساحر حيث أتى ، قال : لا يأمن حيث وجد " .
قوله تعالى : " قال آمنتم له " قرأ ، ابن كثير وحفص عن ، عاصم عن وورش : ( آمنتم له ) على لفظ الخبر . وقرأ نافع ، نافع ، وأبو عمرو : ( آمنتم له ) بهمزة ممدودة . وقرأ وابن عامر ، حمزة ، والكسائي عن وأبو بكر : ( أآمنتم له ) بهمزتين الثانية ممدودة . [ ص: 307 ] عاصم
قوله تعالى : " إنه لكبيركم " قال : يريد : معلمكم . قال ابن عباس : الصبي الكسائي بالحجاز إذا جاء من عند معلمه ، قال : جئت من عند كبيري .
قوله تعالى : " ولأصلبنكم في جذوع النخل " : " في " بمعنى ( على ) ، ومثله : أم لهم سلم يستمعون فيه [ الطور : 38 ] . " ولتعلمن " أيها السحرة ، " أينا أشد عذابا " لكم ، " وأبقى " ; أي : أدوم ، أنا على إيمانكم ، أو رب موسى على تركهم الإيمان به ؟ " قالوا لن نؤثرك " ; أي : لن نختارك ، " على ما جاءنا من البينات " يعنون : اليد والعصا .
فإن قيل : لم نسبوا الآيات إلى أنفسهم بقولهم : " جاءنا " ، وإنما جاءت عامة لهم ولغيرهم ؟
فالجواب : أنهم لما كانوا بأبواب السحر ومذاهب الاحتيال أعرف من غيرهم ، وقد علموا أن ما جاء به موسى ليس بسحر ، كان ذلك في حق غيرهم أبين وأوضح ، وكانوا هم لمعرفته أخص .
وفي قوله تعالى : " والذي فطرنا " وجهان ، ذكرهما الفراء : والزجاج
أحدهما : أن المعنى : لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات وعلى الذي فطرنا .
والثاني : أنه قسم تقديره : وحق الذي فطرنا .
قوله تعالى : " فاقض ما أنت قاض " ; أي : فاصنع ما أنت صانع ، وأصل القضاء : عمل بإحكام . " إنما تقضي هذه الحياة الدنيا " قال : " الفراء إنما " حرف واحد ; فلهذا نصب " الحياة الدنيا " . ولو قرأ قارئ برفع ( الحياة ) لجاز ، على أن يجعل ( ما ) في مذهب ( الذي ) ، كقولك : إن الذي تقضي هذه الحياة الدنيا . وقرأ ابن أبي عبلة : ( إنما تقضى ) بضم التاء على ما لم يسم فاعله ، ( الحياة ) برفع التاء . قال المفسرون : والمعنى : إنما سلطانك وملكك في هذه الدنيا لا في الآخرة . [ ص: 308 ] وأبو المتوكل
قوله تعالى : " ليغفر لنا " يعنون : الشرك ، " وما أكرهتنا عليه " ; أي : والذي أكرهتنا عليه ; أي : ويغفر لنا إكراهك إيانا على السحر .
فإن قيل : كيف قالوا : أكرهتنا ، وقد قالوا : أإن لنا لأجرا ، وفي هذا دليل على أنهم فعلوا السحر غير مكرهين ؟ فعنه أربعة أجوبة :
أحدها : أن فرعون كان يكره الناس على تعلم السحر ، قاله . قال ابن عباس : كان يطالب بعض أهل مملكته بأن يعلموا أولادهم السحر وهم لذلك كارهون ، وذلك لشغفه بالسحر ، ولما خامر قلبه من خوف ابن الأنباري موسى ، فالإكراه على السحر هو الإكراه على تعلمه في أول الأمر .
والثاني : أن السحرة لما شاهدوا موسى بعد قولهم : أئن لنا لأجرا ، ورأوا ذكره الله تعالى وسلوكه منهاج المتقين ، جزعوا من ملاقاته بالسحر ، وحذروا أن يظهر عليهم فيطلع على ضعف صناعتهم ، فتفسد معيشتهم ، فلم يقنع فرعون منهم إلا بمعارضة موسى ، فكان هذا هو الإكراه على السحر .
والثالث : أنهم خافوا أن يغلبوا في ذلك الجمع ، فيقدح ذلك في صنعتهم عند الملوك والسوق ، وأكرههم فرعون على فعل السحر .
والرابع : أن فرعون أكرههم على مفارقة أوطانهم ، وكان سبب ذلك السحر ، ذكر هذه الأقوال . ابن الأنباري
قوله تعالى : " والله خير " ; أي : خير منك ثوابا إذا أطيع ، " وأبقى " عقابا إذا عصي ، وهذا جواب قوله : " ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى " ، وهذا آخر الإخبار عن السحرة .