ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا .
قوله تعالى: " ويوم نسير الجبال " قرأ ابن كثير، ، وأبو عمرو ( ويوم تسير ) بالتاء ( الجبال ) رفعا . وقرأ وابن عامر: نافع، وعاصم، وحمزة، ( نسير ) بالنون ( الجبال ) نصبا . وقرأ والكسائي: ابن محيصن: ( ويوم تسير ) بفتح التاء وكسر السين وتسكين الياء ( الجبال ) بالرفع . قال " الزجاج: ويوم " منصوب على معنى اذكر، ويجوز أن يكون منصوبا على: والباقيات الصالحات [ ص: 151 ] خير يوم تسير الجبال .
قال تسير الجبال عن وجه الأرض، كما يسير السحاب في الدنيا، ثم تكسر فتكون في الأرض كما خرجت منها . ابن عباس:
قوله تعالى: " وترى الأرض بارزة " وقرأ عمرو بن العاص، وابن السميفع، ( وترى الأرض بارزة ) برفع التاء والضاد . وقرأ وأبو العالية: كذلك، إلا أنه فتح ضاد ( الأرض ) . أبو رجاء العطاردي
وفي معنى " بارزة " قولان: أحدهما: [ ظاهرة ] فليس عليها شيء من جبل، أو شجر، أو بناء، قاله الأكثرون . والثاني: بارزا أهلها من بطنها، قاله الفراء .
قوله تعالى: " وحشرناهم " يعني: المؤمنين والكافرين، " فلم نغادر " قال أي: فلم نخلف، يقال: غادرت كذا: إذا خلفته، ومنه سمي الغدير ; لأنه ماء تخلفه السيول . وروى ابن قتيبة: أبان: ( فلم تغادر ) بالتاء .
قوله تعالى: " وعرضوا على ربك صفا " إن قيل: هذا أمر مستقبل، فكيف عبر [ عنه ] بالماضي ؟ فالجواب: أن ما قد علم الله وقوعه يجري مجرى المعاين، كقوله: ونادى أصحاب الجنة [ الأعراف: 43 ] .
وفي معنى قوله: " صفا " أربعة أقوال:
أحدها: أنه بمعنى جميعا، كقوله: ثم ائتوا صفا [ طه: 64 ]، قاله مقاتل .
والثاني: أن المعنى: وعرضوا على ربك مصفوفين، هذا مذهب البصريين .
والثالث: أن المعنى: وعرضوا على ربك صفوفا، فناب الواحد عن الجميع، كقوله: ثم نخرجكم طفلا [ الحج: 5 ] .
والرابع: أنه لم يغب عن الله منهم أحد، فكانوا كالصف الذي تسهل الإحاطة بجملته، ذكر هذه الأقوال وقد قيل: إن كل أمة وزمرة صف . [ ص: 152 ] ابن الأنباري .
قوله تعالى: " لقد جئتمونا " فيه إضمار ( فيقال لهم ) .
وفي المخاطبين بهذا قولان: أحدهما: أنهم الكل . والثاني: الكفار، فيكون اللفظ عاما والمعنى خاصا . وقوله: " كما خلقناكم أول مرة " مفسر في ( الأنعام: 94 ) . وقوله: " بل زعمتم " خطاب الكفار خاصة، والمعنى: زعمتم في الدنيا " ألن نجعل لكم موعدا " للبعث والجزاء .
قوله تعالى: " ووضع الكتاب " فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الكتاب الذي سطر فيه ما تعمل الخلائق قبل وجودهم، قاله والثاني: أنه الحساب، قاله ابن عباس . والثالث: كتاب الأعمال، قاله ابن السائب . وقال مقاتل . وضع كتاب أعمال العباد في أيديهم، فعلى هذا الكتاب اسم جنس . ابن جرير:
قوله تعالى: " فترى المجرمين " قال [ هم ] الكافرون . وذكر بعض أهل العلم أن كل مجرم ذكر في القرآن، فالمراد به: الكافر . مجاهد:
قوله تعالى: " مشفقين " ; أي: خائفين " مما فيه " من الأعمال السيئة، " ويقولون يا ويلتنا " هذا قول كل واقع في هلكة . وقد شرحنا هذا المعنى في قوله: يا حسرتنا [ الأنعام: 31 ] .
قوله تعالى: " لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها " هذا على ظاهره في صغير الأمور وكبيرها، وقد روى عن عكرمة قال: الصغيرة: التبسم، والكبيرة: القهقهة . وقد يتوهم أن المراد بذلك صغائر الذنوب وكبائرها، وليس كذلك ; إذ ليس الضحك والتبسم مجردهما من الذنوب، وإنما المراد أن التبسم من صغار الأفعال، والضحك فعل كبير، وقد روى ابن عباس، عن الضحاك قال: الصغيرة: التبسم والاستهزاء بالمؤمنين، والكبيرة: القهقهة [ ص: 153 ] بذلك ; فعلى هذا يكون ذنبا من الذنوب لمقصود فاعله، لا لنفسه . ومعنى " ابن عباس، أحصاها " : عدها وأثبتها، والمعنى: وجدت محصاة . " ووجدوا ما عملوا حاضرا " ; أي: مكتوبا مثبتا في الكتاب . وقيل: رأوا جزاءه حاضرا . وقال الصحيح عند المحققين أن أبو سليمان: بعد أن يراها صاحبها . صغائر المؤمنين الذين وعدوا العفو عنها إذا اجتنبوا الكبائر، إنما يعفى عنها في الآخرة
قوله تعالى: " ولا يظلم ربك أحدا " قال لا تنقص حسنات المؤمن ولا يزاد في سيئات الكافر . وقيل: إن كان للكافر فعل خير، كعتق رقبة وصدقة، خفف عنه به من عذابه، وإن ظلمه مسلم أخذ الله من المسلم فصار الحق لله . أبو سليمان:
ثم إن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يذكر هؤلاء المتكبرين عن مجالسة الفقراء قصة إبليس وما أورثه الكبر، فقال: " وإذ قلنا " ; أي: اذكر ذلك .
وفي قوله: " كان من الجن " قولان:
أحدهما: أنه من الجن حقيقة لهذا النص، واحتج قائلوا هذا بأن له ذرية - وليس للملائكة ذرية - وأنه كفر، والملائكة رسل الله، فهم معصومون من الكفر .
والثاني: أنه كان من الملائكة، وإنما قيل: " من الجن " ; لأنه كان من قبيل من الملائكة، يقال لهم: الجن، قاله وقد شرحنا هذا في ( البقرة: 34 ) . ابن عباس،
قوله تعالى: " ففسق عن أمر ربه " فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: خرج عن طاعة ربه، تقول العرب: فسقت الرطبة من قشرها: إذا خرجت منه، قاله الفراء [ ص: 154 ] وابن قتيبة .
والثاني: أتاه الفسق لما أمر فعصى، فكان سبب فسقه عن أمر ربه . قال وهذا مذهب الزجاج: الخليل وهو الحق عندنا . وسيبويه،
والثالث: ففسق عن رد أمر ربه، حكاه عن الزجاج قطرب .
قوله تعالى: " أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني " ; [ أي ]: توالونهم بالاستجابة لهم . قال الحسن ذريته: أولاده، وهم يتوالدون كما يتوالد بنو وقتادة: آدم . قال ذريته: الشياطين، ومن ذريته زلنبور صاحب راية إبليس بكل سوق وثبر، وهو صاحب المصائب، والأعور صاحب الرياء، ومسوط صاحب الأخبار، يأتي بها فيطرحها على أفواه الناس فلا يوجد لها أصل، وداسم صاحب الإنسان إذا دخل بيته ولم يسلم ولم يذكر اسم الله، فهو يأكل معه إذا أكل . قال بعض أهل العلم: إذا كانت خطيئة الإنسان في كبر فلا ترجه، وإن كانت في شهوة فارجه، فإن معصية إبليس كانت بالكبر، ومعصية مجاهد: آدم بالشهوة .
قوله تعالى: " بئس للظالمين بدلا " فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: بئس الاتخاذ للظالمين بدلا . والثاني: بئس الشيطان . والثالث: بئس الشيطان والذرية، ذكرهن ابن الأنباري .
قوله تعالى: " ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض " وقرأ أبو جعفر وشيبة: ( ما أشهدناهم ) بالنون والألف .
وفي المشار إليهم أربعة أقوال:
أحدها: إبليس وذريته . والثاني: الملائكة . والثالث: جميع الكفار . والرابع: جميع الخلق، والمعنى: إني لم أشاورهم في خلقهن، وفي هذا بيان للغناء عن الأعوان وإظهار كمال القدرة . [ ص: 155 ]
قوله تعالى: " ولا خلق أنفسهم " ; أي: ما أشهدت بعضهم خلق بعض، ولا استعنت ببعضهم على إيجاد بعض .
قوله تعالى: " وما كنت متخذ المضلين " [ يعني: الشياطين ]، " عضدا " ; أي: أنصارا وأعوانا . والعضد يستعمل كثيرا في معنى العون ; لأنه قوام [ اليد ] . قال والاعتضاد: التقوي وطلب المعونة، يقال: اعتضدت بفلان ; أي: استعنت به . الزجاج:
وفي ما نفى اتخاذهم عضدا فيه قولان:
أحدهما: أنه الولايات، والمعنى: ما كنت لأولي المضلين، قاله مجاهد .
والثاني: أنه خلق السماوات والأرض، قاله وقرأ مقاتل . الحسن، والجحدري، ( وما كنت ) بفتح التاء . وأبو جعفر: