قوله تعالى: " أقم الصلاة " ; أي: أدها " لدلوك الشمس " ; أي: عند دلوكها . وذكر في ( اللام ) قولين: أحدهما: أنها بمعنى ( في ) . والثاني: أنها مؤكدة، كقوله ابن الأنباري ردف لكم [ النمل: 72 ] . وقال أبو عبيدة: دلوكها: من عند زوالها إلى أن تغيب . وقال ميلها وقت الظهيرة دلوك، وميلها للغروب دلوك . وقال الزجاج: الأزهري: معنى ( الدلوك ) في كلام العرب: الزوال، ولذلك قيل للشمس إذا زالت نصف النهار: دالكة، وإذا أفلت: دالكة ; لأنها في الحالين زائلة . [ ص: 72 ]
وللمفسرين في المراد بالدلوك هاهنا قولان:
أحدهما: أنه زوالها نصف النهار . قال: دعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن شاء من أصحابه فطعموا عندي، ثم خرجوا حين زالت الشمس، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " اخرج يا جابر بن عبد الله، فهذا حيث دلكت الشمس " أبا بكر ; وهذا قول روى ابن عمر، وأبي برزة، وأبي هريرة، والحسن، والشعبي، وسعيد بن جبير، وأبي العالية، ومجاهد، وعطاء، وعبيد بن عمير، وقتادة، والضحاك، وهو اختيار ومقاتل، الأزهري . قال الأزهري: لتكون الآية جامعة للصلوات الخمس، فيكون المعنى: أقم الصلاة من وقت زوال الشمس إلى غسق الليل، فيدخل فيها الأولى، والعصر، وصلاتا غسق الليل، وهما العشاءان، ثم قال: " وقرآن الفجر " ، فهذه خمس صلوات .
والثاني: أنه غروبها، قاله ابن مسعود، والنخعي، وعن وابن زيد، كالقولين، قال ابن عباس ورأيت الفراء: العرب تذهب في الدلوك إلى غيبوبة الشمس، وهذا اختيار ابن قتيبة، قال: لأن العرب تقول: دلك النجم: إذا غاب، قال ذو الرمة:
مصابيح ليست باللواتي تقودها نجوم ولا بالأفلات الدوالك
[ ص: 73 ]وتقول في الشمس: دلكت براح، يريدون: غربت، والناظر قد وضع كفه على حاجبه ينظر إليها، قال الشاعر:
والشمس قد كادت تكون دنفا أدفعها بالراح كي تزحلفا
فشبهها بالمريض [ في ] الدنف ; لأنها قد همت بالغروب كما قارب الدنف الموت، وإنما ينظر إليها من تحت الكف، ليعلم كم بقي لها إلى أن تغيب، ويتوقى الشعاع بكفه . فعلى هذا المراد بهذه الصلاة: المغرب، فأما غسق الليل فظلامه .
وفي المراد بالصلاة المتعلقة بغسق الليل ثلاثة أقوال:
أحدها: العشاء، قاله والثاني: المغرب، قاله ابن مسعود . قال ابن عباس . فيحتمل أن يكون المراد بيان وقت المغرب، أنه من غروب الشمس إلى غسق الليل . والثالث: المغرب والعشاء، قاله القاضي أبو يعلى: الحسن .
قوله تعالى: " وقرآن الفجر " المعنى: وأقم قراءة الفجر . قال المفسرون: المراد به: صلاة الفجر . قال وفي هذا فائدة عظيمة تدل على أن الزجاج: حين سميت الصلاة قرآنا . [ ص: 74 ] الصلاة لا تكون إلا بقراءة،
قوله تعالى: " إن قرآن الفجر كان مشهودا " روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " أبو هريرة " . تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار
قوله تعالى: " ومن الليل فتهجد به " قال فصل بالقرآن . قال ابن عباس: مجاهد، وعلقمة، والأسود: التهجد بعد النوم . قال تهجدت: سهرت، وهجدت: نمت . وقال ابن قتيبة: التهجد هاهنا بمعنى: التيقظ والسهر، واللغويون يقولون: هو من حروف الأضداد، يقال للنائم: هاجد ومتهجد، وكذلك للساهر قال ابن الأنباري: النابغة:
ولو أنها عرضت لأشمط راهب عبد الإله صرورة متهجد
لرنا لبهجتها وحسن حديثها ولخاله رشدا وإن لم يرشد
يعني بالمتهجد: الساهر، وقال لبيد:
قال هجدنا فقد طال السرى [ وقدرنا إن خنا الدهر غفل ]
أي: نومنا . وقال الأزهري: المتهجد: القائم إلى الصلاة من النوم . وقيل له: متهجد ; لإلقائه الهجود عن نفسه، كما يقال: تحرج وتأثم .
قوله تعالى: " نافلة لك " النافلة في اللغة: ما كان زائدا على الأصل .
وفي معنى هذه الزيادة في حقه قولان:
أحدهما: أنها زائدة فيما فرض عليه، فيكون المعنى: فريضة عليك، وكان قد فرض عليه قيام الليل، هذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير
والثاني: أنها زائدة على الفرض وليست فرضا، فالمعنى: تطوعا وفضيلة . قال أبو أمامة، والحسن، إنما النافلة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة . قال ومجاهد: وذلك أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فما زاد على فرضه فهو نافلة له وفضيلة، وهو لغيره كفارة . وذكر بعض أهل العلم: أن صلاة الليل كانت فرضا عليه في الابتداء، ثم رخص له في تركها، فصارت نافلة . وذكر مجاهد: في هذا قولين: ابن الأنباري
أحدهما: يقارب ما قاله فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تنفل [ ص: 76 ] لا يقدر له أن يكون بذلك ماحيا للذنوب ; لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وغيره إذا تنفل كان راجيا ومقدرا محو السيئات عنه بالتنفل، فالنافلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زيادة على الحاجة، وهي لغيره مفتقر إليها، ومأمول بها دفع المكروه . والثاني: أن النافلة للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته، والمعنى: ومن الليل فتهجدوا به نافلة لكم، فخوطب النبي صلى الله عليه وسلم بخطاب أمته . مجاهد،
قوله تعالى: " عسى أن يبعثك ربك " : " عسى " من الله واجبة، ومعنى " يبعثك " : يقيمك " مقاما محمودا " وهو الذي يحمده لأجله جميع أهل الموقف . وفيه قولان:
أحدهما: أنه الشفاعة للناس يوم القيامة، قاله ابن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وابن عمر، وسلمان الفارسي، وجابر بن عبد الله، وهي رواية والحسن، عن مجاهد . ابن أبي نجيح
والثاني: يجلسه على العرش يوم القيامة . روى عن أبو وائل أنه قرأ هذه الآية، وقال: يقعده على العرش، وكذلك روى عبد الله عن الضحاك ابن عباس، وليث عن مجاهد .
قوله تعالى: " وقل رب أدخلني مدخل صدق " وقرأ الحسن، وعكرمة، والضحاك، وحميد بن قيس، بفتح الميم في ( مدخل ) [ ص: 77 ] و( مخرج ) . قال وابن أبي عبلة المدخل بضم الميم: مصدر أدخلته مدخلا، ومن قال: مدخل صدق، فهو على أدخلته، فدخل مدخل صدق، وكذلك شرح ( مخرج ) مثله . الزجاج:
وللمفسرين في المراد بهذا المدخل والمخرج أحد عشر قولا:
أحدها: أدخلني المدينة مدخل صدق، وأخرجني من مكة مخرج صدق . روى أبو ظبيان عن قال: ابن عباس، بمكة، ثم أمر بالهجرة، فنزلت عليه هذه الآية . وإلى هذا المعنى ذهب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في رواية الحسن سعيد بن جبير، وقتادة، وابن زيد .
والثاني: أدخلني القبر مدخل صدق، وأخرجني منه مخرج صدق، رواه عن العوفي ابن عباس .
والثالث: أدخلني المدينة، وأخرجني إلى مكة، يعني: لفتحها، رواه عن أبو صالح ابن عباس .
والرابع: أدخلني مكة مدخل صدق، وأخرجني منها مخرج صدق، فخرج منها آمنا من المشركين، ودخلها ظاهرا عليها يوم الفتح، قاله الضحاك .
والخامس: أدخلني مدخل صدق الجنة، وأخرجني مخرج صدق من مكة إلى المدينة، رواه عن قتادة الحسن .
والسادس: أدخلني في النبوة والرسالة، وأخرجني منها مخرج صدق، قاله يعني: أخرجني مما يجب علي فيها . مجاهد،
والسابع: أدخلني في الإسلام وأخرجني منه، قاله يعني: من أداء ما وجب علي فيه إذا جاء الموت . [ ص: 78 ] أبو صالح،
والثامن: أدخلني في طاعتك وأخرجني منها ; أي: سالما غير مقصر في أدائها، قاله عطاء .
والتاسع: أدخلني الغار وأخرجني منه، قاله محمد بن المنكدر .
والعاشر: أدخلني في الدين وأخرجني من الدنيا وأنا على الحق، ذكره الزجاج .
والحادي عشر: أدخلني مكة وأخرجني إلى حنين، ذكره أبو سليمان الدمشقي .
وأما إضافة الصدق إلى المدخل والمخرج، فهو مدح لهما . وقد شرحنا هذا المعنى في سورة ( يونس: 2 ) .
قوله تعالى: " واجعل لي من لدنك " ; أي: من عندك " سلطانا " وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه التسلط على الكافرين بالسيف، وعلى المنافقين بإقامة الحدود، قاله والثاني: أنه الحجة البينة، قاله الحسن . والثالث: الملك العزيز الذي يقهر به العصاة، قاله مجاهد . وقال قتادة . وقوله: " ابن الأنباري: نصيرا " يجوز أن يكون بمعنى منصرا، ويصلح أن يكون تأويله ناصرا .
قوله تعالى: " وقل جاء الحق وزهق الباطل " فيه أربعة أقوال:
أحدها: أن الحق: الإسلام، والباطل: الشرك، قاله عن أبو صالح والثاني: أن الحق: القرآن، والباطل: الشيطان، قاله ابن عباس . والثالث: أن الحق: الجهاد، والباطل: الشرك، قاله ابن جريج . والرابع: الحق: عبادة الله، والباطل: عبادة الأصنام، قاله قتادة . ومعنى " زهق " : بطل واضمحل، وكل شيء هلك وبطل فقد زهق، وزهقت نفسه: تلفت . مقاتل .
وروى ابن مسعود مكة وحول البيت ثلاثمائة [ ص: 79 ] وستون صنما، فجعل يطعنها ويقول: " جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا " . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل
فإن قيل: كيف قلتم: إن " زهق " بمعنى بطل، والباطل موجود معمول عليه عند أهله ؟
فالجواب: أن المراد من بطلانه وهلكته: وضوح عيبه، فيكون هالكا عند المتدبر الناظر .