وأما الكوفيون فقالوا: إن كان الحدث مستوعبا فالرفع فقط نحو: "الصوم يوم" وإن لم يكن مستوعبا فهشام يلتزم رفعه أيضا نحو: "ميعادك يوم" يجيز نصبه مثل البصريين، وقد نقل عنه أنه منع نصب "أشهر" يعني في الآية لأنها نكرة، فيكون له في المسألة قولان، وهذه المسألة بعيدة الأطراف تضمها كتب النحويين. قال والفراء "ومن قدر الكلام: [الحج] في أشهر فيلزمه مع سقوط حرف الجر نصب الأشهر، ولم يقرأ به أحد" قال الشيخ: "ولا يلزم ذلك، لأن الرفع على جهة الاتساع، وإن كان أصله الجر بفي". ابن عطية:
قوله: "فمن": "من" يجوز فيها أن تكون شرطية، وأن تكون موصولة كما تقدم في نظائرها، و "فيهن" متعلق بـ "فرض". والضمير في "فيهن" يعود على "أشهر"، وجيء به كضمير الإناث لما تقدم من أن جمع غير العاقل في [ ص: 323 ] القلة يعامل معاملة جمع الإناث على الأفصح، فلذلك جاء "فيهن" دون "فيها"، وهذا بخلاف قوله "منها أربعة حرم" لأنه هناك جمع كثرة.
قوله: "فلا رفث" الفاء: إما جواب الشرط، وإما زائدة في الخبر على حسب النحويين المتقدمين. وقرأ أبو عمرو بتنوين "رفث" و "فسوق" ورفعهما وفتح "جدال"، والباقون بفتح الثلاثة، وابن كثير - ويروى عن وأبو جعفر - برفع الثلاثة والتنوين، عاصم والعطاردي بنصب الثلاثة والتنوين.
فأما قراءة الرفع ففيها وجهان، أظهرهما: أن "لا" ملغاة وما بعدها رفع بالابتداء، وسوغ الابتداء بالنكرة تقدم النفي عليها. و "في الحج" خبر المبتدأ الثالث، وحذف خبر الأول والثاني لدلالة خبر الثالث عليهما، أو يكون "في الحج" خبر الأول، وحذف خبر الثاني والثالث لدلالة خبر الأول عليهما، ويجوز أن يكون "في الحج" خبر الثلاثة. ولا يجوز أن يكون "في الحج" خبر الثاني، وحذف خبر الأول والثالث لقبح مثل هذا التركيب، ولتأديته إلى الفصل.
والثاني: أن تكون "لا" عاملة عمل ليس، ولعملها عملها شروط: تنكير الاسم، وألا يتقدم الخبر ولا ينتقض النفي، فيكون "رفث" اسمها وما بعده عطف عليه، و "وفي الحج" الخبر على حسب ما تقدم من التقادير فيما قبله. جزم بهذا الوجه، وهو ضعيف لأن إعمال "لا" عمل ليس لم يقم عليه دليل صريح، وإنما أنشدوا أشياء محتملة، أنشد وابن عطية سيبويه:
[ ص: 324 ]
880 - من صد عن نيرانها فأنا ابن قيس لا براح
وأنشد غيره: 881 - تعز فلا شيء على الأرض باقيا ولا وزر مما قضى الله واقيا
882 - أنكرتها بعد أعوام مضين لها لا الدار دارا ولا الجيران جيرانا
883 - وحلت سواد القلب لا أنا باغيا سواها ولا في حبها متراخيا
وأما من نصب الثلاثة منونة فتخريجها على أن تكون منصوبة على المصدر بأفعال مقدرة من لفظها، تقديره: فلا يرفث رفثا ولا يفسق فسوقا ولا يجدال جدالا، وحينئذ فلا عمل للا فيما بعدها، وإنما هي نافية للجمل المقدرة، و "في الحج" متعلق بأي المصادر الثلاثة شئت، على أن المسألة من التنازع، ويكون هذا دليلا على تنازع أكثر من عاملين، وقد يمكن أن يقال: إن هذه "لا" هي التي للتبرئة على مذهب من يرى أن اسمها معرب منصوب، وإنما حذف تنوينه تخفيفا، فروجع الأصل في هذه القراءة الشاذة كما روجع في قوله:
884 - ألا رجلا جزاه الله خيرا ... ... ... ...
وقد تقدم تحرير هذا المذهب.
[ ص: 325 ] وأما قراءة الفتح في الثلاثة فهي "لا" التي للتبرئة. وهل فتحة الاسم فتحة إعراب أم بناء؟ قولان، الثاني للجمهور. وإذا بني معها فهل المجموع منها ومن اسمها في موضع رفع بالابتداء، وإن كانت عاملة في الاسم النصب على الموضع ولا خبر لها؟ أو ليس المجموع في موضع مبتدأ، بل "لا" عاملة في الاسم النصب على الموضع وما بعدها خبر لـ "لا"، لأنها أجريت مجرى "أن" في نصب الاسم ورفع الخبر؟ قولان، الأول قول والثاني قول سيبويه، وعلى هذين المذهبين يترتب الخلاف في قوله "في الحج" فعلى مذهب الأخفش. يكون في موضع خبر المبتدأ، وعلى رأي سيبويه يكون في موضع خبر "لا"، وقد تقدم ذلك أول الكتاب، وإنما أعيد بعضه تنبيها عليه. الأخفش
وأما من رفع الأولين وفتح الثالث: فالرفع على ما تقدم، وكذلك الفتح، إلا أنه ينبغي أن يتنبه لشيء: وهو أنا إذا قلنا بمذهب من كون "لا" وما بني معها في موضع المبتدأ يكون "في الحج" خبرا عن الجميع، إذ ليس فيه إلا عطف مبتدأ على مبتدأ. وأما على مذهب سيبويه فلا يجوز أن يكون "في الحج" إلا خبرا للمبتدأين أو خبرا لـ "لا". ولا يجوز أن يكون خبرا للكل لاختلاف الطالب، لأن المبتدأ يطلبه خبرا له ولا يطلبه خبرا لها. الأخفش
وإنما قرئ كذلك، قال "لأنهما حملا الأولين على معنى النهي، كأنه قيل: فلا يكونن رفث ولا فسوق، والثالث على معنى الإخبار بانتفاء الجدال، كأنه قيل: ولا شك ولا خلاف في الحج" واستدل [ ص: 326 ] على أن المنهي عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال بقوله عليه السلام: الزمخشري: وأنه لم يذكر الجدال. وهذا الذي ذكره "من حج فلم يرفث ولم يفسق" سبقه إليه صاحب هذه القراءة، إلا أنه أفصح عن مراده، قال الزمخشري - أحد قارئيها -: الرفع بمعنى فلا يكون رفث ولا فسوق; أي شيء يخرج من الحج، ثم ابتدأ النفي فقال: "ولا جدال"، أبو عمرو بن العلاء فأبو عمرو لم يجعل النفيين الأولين نهيا، بل تركهما على النفي الحقيقي; فمن ثم كان في قوله هذا نظر; فإن جملة النفي بلا التبرئة قد يراد بها النهي أيضا، وقيل ذلك في قوله: "لا ريب فيه". والذين يظهر في الجواب عن ذلك ما نقله عن بعضهم فقال: "وقيل: الحجة لمن رفعهما أن النفي فيهما ليس بعام، إذ قد يقع الرفث والفسوق في الحج من بعض الناس بخلاف نفي الجدال في أمر الحج فإنه عام..." وهذا يتمشى على عرف النحويين فإنهم يقولون: لا العاملة عمل "ليس" لنفي الوحدة، والعاملة عمل "إن" لنفي الجنس، قالوا: ولذلك يقال: لا رجل فيها بل رجلان أو رجال إذا رفعت، ولا يحسن ذلك إذا بنيت اسمها أو نصبت بها. وتوسط بعضهم فقال: التي للتبرئة نص في العموم، وتلك ليست نصا، والظاهر أن النكرة في سياق النفي مطلقا للعموم. أبو عبد الله الفاسي
[ ص: 327 ] وقد تقدم معنى الرفث والفسق. وقرأ "الرفوث" وهو مصدر بمعنى الرفث. عبد الله
وقوله: "فلا رفث" وما في حيزه في محل جزم إن كانت "من" شرطية، ورفع إن كانت موصولة، وعلى كلا التقديرين فلا بد من رابط يرجع إلى "من"; لأنها إن كانت شرطية فقد تقدم أنه لا بد من ضمير يعود على اسم الشرط، وإن كانت موصولة فهي مبتدأ والجملة خبرها ولا رابط في اللفظ، فلا بد من تقديره وفيه احتمالان، أحدهما: أن تقدره بعد "جدال" تقديره: ولا جدال منه ويكون "منه" صفة لـ "جدال"، فيتعلق بمحذوف، فيصير نظير قولهم: "السمن منوان بدرهم" تقديره: منوان منه. والثاني: أن يقدر بعد الحج "تقديره: ولا جدال في الحج منه، أو: له. ويكون هذا الجار في محل نصب على الحال من "الحج". وللكوفيين في هذا تأويل آخر وهو أن الألف واللام نابت مناب الضمير، والأصل: في حجه، كقوله: "وأما من خاف مقام ربه" ثم قال: "فإن الجنة هي المأوى" أي: مأواه.
وكرر الحج وضعا للظاهر موضع المضمر تفخيما كقوله:
885 - لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... ... ... ...
وكأن نظم الكلام يقتضي: "فمن فرض فيهن الحج فلا رفث فيه"، وحسن ذلك في الآية الفصل بخلاف البيت.
والجدال مصدر "جادل". والجدال: أشد الخصام مشتق من الجدالة، [ ص: 328 ] وهي الأرض; كأن كل واحد من المتجادلين يرمي صاحبه بالجدالة، قال الشاعر:
886 - قد أركب الآلة بعد الآله وأترك العاجز بالجداله
قوله: "وما تفعلوا من خير" تقدم الكلام على نظيرتها، وهي: "ما ننسخ"، فكل ما قيل ثم يقال هنا. قال "ونزيد هنا وجها آخر: وهو أن يكون "من خير" في محل نصب نعتا لمصدر محذوف، تقديره: وما تفعلوا فعلا كائنا من خير". أبو البقاء:
و "يعلمه" جزم على جواب الشرط، ولا بد من مجاز في الكلام: فإما أن يكون عبر بالعلم عن المجازاة على فعل الخير، كأنه قيل: يجازكم، وإما أن تقدر المجازاة بعد العلم أي: فيثيبه عليه.
وفي قوله: "وما تفعلوا" التفات; إذ هو خروج من غيبة في قوله: "فمن فرض". وحمل على معنى "من" إذ جمع الضمير ولم يفرده.
وقد خبط بعض المعربين فقال: "من خير" متعلق بتفعلوا، وهو في موضع نصب نعتا لمصدر محذوف، تقدره: "وما تفعلوه فعلا من خير" والهاء في "يعلمه" تعود إلى "خير". وهذا غلط فاحش; لأنه من حيث علقه بالفعل [ ص: 329 ] قبله كيف يجعله نعت مصدر محذوف؟ ولأن جعله الهاء تعود إلى "خير" يلزم منه خلو جملة الجواب من ضمير يعود على اسم الشرط، وذلك لا يجوز، أما لو كانت أداة الشرط حرفا فلا يشترط فيه ذلك فالصواب ما تقدم. وإنما ذكرت لك هذا لئلا تراه فتتوهم صحته. والهاء عائدة على "ما" التي هي اسم الشرط. وألف "الزاد" منقلبة عن واو لقولهم: تزود.