وأما قراءة الغيبة فالظاهر أن "أم" فيها منقطعة على المعنى المتقدم. وحكى عن بعض النحويين أنها متصلة لأنك إذا قلت: أتقوم أم يقوم عمرو: أيكون هذا أم هذا. ورد الطبري هذا الوجه فقال: "هذا المثال غير جيد، لأن القائل فيه واحد والمخاطب واحد، والقول في الآية من اثنين والمخاطب اثنان غيران، وإنما تتجه معادلة "أم" للألف على الحكم المعنوي، كأن معنى قل أتحاجوننا: أيحاجون يا ابن عطية محمد أم يقولون" انتهى. وقال "وفيمن قرأ بالياء لا تكون إلا منقطعة" قال الشيخ: "ويمكن الاتصال مع قراءة الياء، ويكون ذلك من الالتفات إذ صار فيه [ ص: 147 ] [خروج] من خطاب إلى غيبة، والضمير لناس مخصوصين". وقال الزمخشري: "أم يقولون يقرأ بالياء ردا على قوله: أبو البقاء: "فسيكفيكهم الله" فجعل هذه الجملة متعلقة بقوله: "فسيكفيكهم" وحينئذ لا تكون إلا منقطعة لما عرفت أن من شرط المتصلة تقدم همزة استفهام أو تسوية مع أن المعنى ليس على أن الانتقال من قوله: "فسيكفيكهم" إلى قوله " أم يقولون " حتى يجعله ردا عليه وهو بعيد عنه لفظا ومعنى.
وقال الشيخ: "الأحسن في القراءتين أن تكون "أم" منقطعة وكأنه أنكر عليهم محاجتهم في الله ونسبة أنبيائه لليهودية والنصرانية، وقد وقع منهم ما أنكر عليهم، ألا ترى إلى قوله: " يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم" الآيات وإذا جعلناها متصلة كان ذلك غير متضمن وقوع الجملتين، بل إحداهما، وصار السؤال عن تعيين إحداهما، وليس الأمر كذلك إذا وقعا معا. وهذا الذي قاله الشيخ حسن جدا. و "أو" في قوله: "هودا أو نصارى" كهي في قوله: "لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى" وقد تقدم تحقيقه.
قوله: "أم الله" أم متصلة، والجلالة عطف على "أنتم"، ولكنه فصل بين المتعاطفين بالمسؤول عنه، وهو أحسن الاستعمالات الثلاثة: وذلك أنه يجوز في مثل هذا التركيب ثلاثة أوجه: تقدم المسؤول عنه نحو: أأعلم أنتم أم الله، وتوسطه نحو: أأنتم أعلم أم الله، وتأخيره نحو: أأنتم أم الله أعلم. وقال "أم الله" مبتدأ والخبر محذوف، أي: أم الله أعلم، و "أم" هنا [ ص: 148 ] المتصلة أي: أيكم أعلم" وهذا الذي قاله فيه نظر، لأنه إذا قدر له خبرا صناعيا صار جملة، وأم المتصلة لا تعطف الجملة بل المفرد وما في معناه. وليس قول أبو البقاء: بتفسير معنى فيغتفر له ذلك بل تفسير إعراب، والتفضيل في قوله "أعلم" على سبيل الاستهزاء وعلى تقدير أن يظن بهم علم من الجهلة وإلا فلا مشاركة، ونظيره قول أبي البقاء حسان:
751 - أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء
وقد علم أن الرسول خير كله.
قوله: "من الله" في "من" أربعة أوجه، أحدها: أنها متعلقة بـ "كتم"، وذلك على حذف مضاف أي: كتم من عباد الله شهادة عنده. الثاني: أن تتعلق بمحذوف على أنها صفة لشهادة بعد صفة، لأن "عنده" صفة لشهادة وهو ظاهر قول الزمخشري فإنه قال: و "من" في قوله: "شهادة من الله" مثلها في قولك: "هذه شهادة مني لفلان" إذا شهدت له، ومثله: "براءة من الله ورسوله". الثالث: أنها في محل نصب على الحال من المضمر في "عنده"، يعني من الضمير المرفوع بالظرف لوقوعه صفة، ذكره الرابع: أن يتعلق بذلك المحذوف الذي تعلق به الظرف وهو "عنده" لوقوعه صفة، والفرق بينه وبين الوجه الثاني أن ذاك له عامل مستقل غير العامل في الظرف. أبو البقاء.
قال "ولا يجوز أن تعلق "من" بشهادة، لئلا يفصل بين [ ص: 149 ] الصلة والموصول بالصفة يعني أن "شهادة" مصدر مؤول بحرف مصدري وفعل فلو علقت "من" بها لكنت قد فصلت بين ما هو في معنى الموصول وبين أبعاض الصلة بأجنبي وهو الظرف الواقع صفة لشهادة. وفيه نظر من وجهين، أحدهما: لا نسلم أن "شهادة" ينحل لموصول وصلته، فإن كل مصدر لا ينحل لهما. والثاني: سلمنا ذلك ولكن لا نسلم والحالة هذه أن الظرف صفة بل هو معمول لها، فيكون بعض الصلة لا أجنبيا حتى يلزم الفصل به بين الموصول وصلته، وإنما كان طريق منع هذا بغير ما ذكر، وهو أن المعنى يأبى ذلك. أبو البقاء:
وكتم يتعدى لاثنين فأولهما في الآية الكريمة محذوف تقديره: كتم الناس شهادة، والأحسن من هذه الوجوه أن تكون "من الله"صفة لشهادة أو متعلقة بعامل الظرف لا متعلقة بكتم، وذلك أن كتمان الشهادة مع كونها مستودعة من الله عنده أبلغ في الأظلمية من كتمان شهادة مطلقة من عباد الله.
وقال في "ري الظمآن": "في الآية تقديم وتأخير، والتقدير: ومن أظلم من الله ممن كتم شهادة حصلت له كقولك: "ومن أظلم من زيد من جملة الكاتمين للشهادة" والمعنى: لو كان إبراهيم وبنوه يهودا أو نصارى، ثم إن الله كتم هذه الشهادة لم يكن أحد ممن يكتم الشهادة أظلم منه، لكن لما استحال ذلك مع عدله وتنزيهه عن الكذب علمنا أن الأمر ليس كذلك". قال الشيخ: "وهذا متكلف جدا من حيث التركيب ومن حيث المدلول: أما التركيب فإن التقديم والتأخير من الضرائر عند الجمهور، وأيضا فيبقى قوله: "ممن كتم" متعلقا إما بأظلم، فيكون ذلك على طريق البدلية، ويكون [ ص: 150 ] إذ ذاك بدل عام من خاص وليس بثابت، وإن كان بعضهم زعم وروده، لكن الجمهور تأولوه بوضع العام موضع الخاص، أو تكون "من" متعلقة بمحذوف فتكون في موضع الحال أي: كائنا من الكاتمين. وأما من حيث المدلول فإن ثبوت الأظلمية لمن جر بـ "من" يكون على تقدير، أي: إن كتمها فلا أحد أظلم منه، وهذا كله معنى لا يليق به تعالى وينزه كتابه عنه".