ولما كرر في هذه السورة أمره بمقاولتهم ، وأطال في الحث على مجادلتهم ، وختم بما يقتضي سلبهم العقل مع تكرير الإخبار بأن المقضي بخسارته منهم لا يؤمنون لآية من الآيات ، وكان من المعلوم أنهم حال إسماعهم ما أمر به لا يسكتون لما عندهم من عظيم النخوة وشماخة الكبر وقوة الجرأة ، وأنه لا جواب لهم إلا التبعة والبذاءة كما هو دأب المعاند المغلوب ، وأن ذلك يحزنه - صلى الله عليه وسلم - لما جبل عليه من الحياء والشهامة والصيانة والنزاهة - كان الحال محتاجا إلى التسلية ، فقال تعالى : قد نعلم والمراد بالمضارع وجود العلم من غير نظر إلى زمان ، وعدل عن الماضي لئلا يظن الاختصاص به ، فالمراد تحقق التجدد لتعلق العلم بتجدد الأقوال إنه ليحزنك أي : يوقع على سبيل التجديد والاستمرار لك الحزن على ما فاتك من حالات الصفاء التي كدرها الذي يقولون أي : من تكذيبك ، فقد علمنا امتثالك لأوامرنا في إسماعهم ما يكرهون من تنزيهنا ، وعلمنا ردهم عليك بما لا يرضيك ، وعلمنا أنه يبلغ منك ، فلا تحزن لأن من علم أن ربه يرضي المطيع له [ ص: 95 ] ويجزي عاصيه ، وهو عالم بما ينال المطيع في طاعته لا ينبغي أن يحزن بل يسر ، وهو كقوله تعالى في سورة : ( يس )
فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون ولا شك أن الحزن عند وقوع ما يسوء - من طبع البشر الذي لا يقدر على الانفكاك عنه ، فالنهي عنه [إنما هو] نهي عما ينشأ عنه من الاسترسال المؤدي إلى الجزع المؤدي إلى عدم الصبر ونسيان ما يعزي ، فهو من النهي عن السبب للمبالغة في النهي عن المسبب ، وما أنسب ذكر ما يحزن بعد تقرير أن الدنيا لأهلها لعب ولهو وأن الآخرة خير للمتقين ، ومن المعلوم أنهما ضدان ، فلا تنال إحداهما إلا بضد ما للأخرى ، فلا تنال الآخرة إلا بضد ما لأهل الدنيا من اللعب واللهو ، وذلك هو الحزن الناشئ عن التقوى الحامل عليها الخوف كما روي في حديث قدسي : ( أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي ) .
ولما أخبره - سبحانه - بعلمه بذلك ، سبب عنه قوله : فإنهم أي : فلا يحزنك ذلك فإنهم لا يكذبونك بل أنت عندهم الأمين ، وليكن علمنا بما تلقى منهم سببا لزوال حزنك ، وكذا إخبارنا لك بعدم تكذيبهم لك ، بل أنت عندهم في نفس الأمر أمين غير متهم ولكنهم لشدة عنادهم ووقوفهم مع الحظوظ وعجزهم عن جواب يبرد غللهم ويشفي عللهم [ ص: 96 ] - ينكرون آيات الله مع علمهم بحقيتها ، فليخفف حزنك لنفسك ما انتهكوه من حرمة من أرسلك ، والآية من الاحتباك : حذف من الجملة الأولى - إظهارا لشرف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأدبا معه - سبب الحزن ، وهو التكذيب لدلالة الثانية عليه ، ومن الثاني النهي عن المسبب لدلالة الأولى عليه; روى الطبري في تفسيره عن السدي أنه لما كان يوم بدر قال الأخنس بن شريق لبني زهرة إن محمدا ابن أختكم ، وأنتم أحق من كف عنه ، فإنه إن كان نبيا لم تقاتلوه [اليوم] ، وإن كان كاذبا [كنتم] أحق من كف عن ابن أخته ، قفوا هاهنا حتى ألقى أبا الحكم ، فإن غلب محمد رجعتم سالمين ، وإن غلب محمد فإن قومكم لن يصنعوا بكم شيئا ، فيومئذ سمي ( الأخنس ) ، وكان اسمه : ( أبي ) ، فالتقى الأخنس وأبو جهل ، فخلا الأخنس به فقال : يا أبا الحكم! أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب ، فإنه ليس هاهنا من قريش أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا ، فقال أبو جهل : ويحك! والله إن محمدا لصادق ، وما كذب محمد قط ، ولكن [ ص: 97 ] إذا ذهب بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والنبوة فماذا يكون لسائر قريش ! وعن ناجية قال : قال أبو جهل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ما نتهمك ولكن نتهم الذي جئت به ، فأنزل الله الآية ، وعلى ذلك يدل قوله تعالى : ولكن وقال : الظالمين في موضع الضمير تعميما وتعليقا للحكم بالوصف ، أي : الذين كانوا في مثل الظلام بآيات أي : بسبب آيات الله أي : الملك الأكبر الذي له الكمال كله يجحدون قال في أول كتاب ( الحجة) : أي : يجحدون ما عرفوه من صدقك وأمانتك ، وعلق باء الجر بالظالمين كما هي في قوله أبو علي الفارسي وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها ونحوها ، وقال في كتاب الأفعال : جحد الشيء جحدا وجحودا : أنكره وهو عالم به . هذا قصدهم غير أنه لا طريق لهم إلى إنكار الآيات إلا بالتكذيب ، أو ما يؤول إليه ، وأنت تعلم أن الذي أرسلك على كل شيء قدير ، وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير ، فاقتضت قدرته وقهره وانتصاره لأهل ولايته وجبره أن يحل بأعدائهم سطوة تجل عن الوصف ، واقتضت حكمته عدم المعاجلة بها تشريفا لك وتكثيرا لأمتك . ابن القطاع