ولما أثبت شهادة الله تعالى له بالتصديق بأنه محق ، وكان ذلك ربما أوهم أن غير الله تعالى لا يعرف ذلك ، لا سيما وقد ادعى كفار قريش أنهم سألوا أهل الكتابين فادعوا أنهم لا يعرفونه ، أتبعه بقوله على طريق الاستئناف : الذين آتيناهم أي : بما لنا من العظمة من اليهود والنصارى الكتاب أي : الجامع لخيري الدنيا والآخرة ، وهو التوراة والإنجيل يعرفونه أي : الحق الذي كذبتم به لما جاءكم وحصل النزاع بيني وبينكم فيه لما عندهم في كتابهم من وصفي الذي لا يشكون فيه ، ولما هم بمثله آنسون مما أثبت به من المعجزات ، ولما في هذا القرآن من التصديق لكتابهم والكشف لما أخفوا من أخبارهم ، ولأساليبه التي لا يرتابون في أنها خارجة من مشكاة كتابهم مع زيادتها بالإعجاز ، فهم يعرفون هذا الحق كما يعرفون أبناءهم أي : من بين الصبيان بحلاهم ونعوتهم معرفة لا يشكون فيها ، وقد وضعتموهم موضع [ ص: 79 ] الوثوق ، وأنزلتموهم منزلة الحكم بسؤالكم لهم عني غير مرة ، وقد آمن بي جماعة منهم وشهدوا لي ، فما لكم لا تتابعونهم! لقد بان الهوى وانكشف عن ضلالكم الغطاء .
ولما كان أكثرهم يخفون ذلك ولا يشهدون به ، قال جوابا لمن يسأل عنهم : الذين خسروا أي : منهم ، ولكنه حذفها للتعميم أنفسهم فهم أي : بسبب ذلك لا يؤمنون أي : لما سبق لهم من القضاء بالشقاء الذي خسروا به أنفسهم بالعدول عما دعت إليه الفطرة السليمة والفكرة المستقيمة ، ومن خسر نفسه فهو لا يؤمن فكيف يشهد! فقد بينت هذه الجملة أن من لا يشهد منهم فهو في الحقيقة ميت أو موات ؛ لأن من ماتت نفسه كذلك ، بل هم أشقى منه ، فلقد أداهم ذلك الشقاء إلى أن حرفوا كتابهم وأخفوا كثيرا مما يشهد لي بالنبوة ، فكانوا أظلم الخلق بالكذب في كتاب الله للتكذيب لرسل الله .